معركة الأمعاء الخاوية في تونس

محمد خليل برعومي

تشهد السجون التونسية موجةً جديدةً من التصعيد، بعدما اختار عدد من المعتقلين السياسيين الدخول في إضراب جوع مفتوح، للاحتجاج على ظروف اعتقالهم وغياب شروط المحاكمة العادلة. بدأت المواجهة مع إعلان القيادي بجبهة الخلاص المُعارِضة جوهر بن مبارك إضراباً قاسياً عن الطعام والماء والدواء، في خطوة جسّدت رفضه محاكمته عن بعد، في ملف التآمر على أمن الدولة. تدهورت حالته الصحية سريعاً، وفق تأكيدات عائلته وهيئة دفاعه، بينما أصرّت هيئة السجون والإصلاح على نفي وجود أيّ خطر، وهدّدت كلَّ من ينشر معلومات مخالفة لروايتها الرسمية. عزّز هذا النفي إحساساً عاماً بأن السلطة لا تدير السجون فقط، بل تدير أيضاً الرواية وتحدّد ما يجب أن يعرفه الرأي العام وما يجب حجبه.
مع تصاعد الضغط على جوهر بن مبارك، اختار عدد من السياسيين المعتقلين الدخول في إضراب جوع تضامني. أعلن راشد الغنّوشي (رئيس البرلمان السابق) إضرابه رغم وضعه الصحّي الحرج، ثمّ تبعه عصام الشابي (الأمين العام للحزب الجمهوري)، قبل التحاق القياديَّيْن السياسيَّيْن عبد الحميد الجلاصي ورضا بالحاج بالإضراب عن الطعام. جمعت هذه الخطوات بين شخصيات تختلف فكرياً، لكنّها تواجه السياق نفسه من التهميش والوصاية القضائية. كذلك أجبرت هذه التحرّكات الدولة على التعامل مع السجن على أنه فضاء سياسي نشط، لا مؤسّسة عقابية مغلقة، ووضعت السلطة أمام سؤال محرج يتعلّق باستقلال القضاء وطريقة استخدامه في إدارة الخلاف السياسي.
تعمّقت الأزمة عندما كشف محامو جوهر تعرّضه للاعتداء بالعنف داخل السجن. حاولت السلطة تطويق الحادثة سريعاً عبر بيانات النفي، لكنّها قابلت في الوقت نفسه المحامين برفع قضايا جزائية ضدّ ثلاثة منهم، بتهم تتعلّق بنشر أخبار كاذبة والإساءة إلى مؤسّسة السجون. استخدمت السلطة هذه القضايا لتضييق الخناق على هيئة الدفاع ومصادرة روايتها، وكأنّها تريد حماية نسختها الوحيدة لما يجري داخل الزنازين ومنع تسرب أيّ رواية مخالفة. تحوّلت العلاقة بين الدولة والمحامين إلى مواجهة مباشرة بعد منعهم من التواصل مع موكليهم في أكثر من مناسبة، ممّا أكّد أن المعركة لا تدور حول صحّة معتقل أو تفاصيل إضراب، بل حول الحقّ في سرد الحقيقة نفسها.
أكّد الغنّوشي أن قضية الحرية لم تعد شأناً أيديولوجياً، بل محور مشترك يجمع كل تيّارات المعارضة
امتدّ تأثير الإضرابات خارج السجون، بعدما أعلن والد جوهر بن مبارك، المناضل اليساري عزّ الدين الحزقي، وعددٌ من أفراد العائلة الدخول في إضراب عن الطعام داخل مقرّ الحزب الجمهوري. نقلت هذه الخطوة الاحتجاج من المساحة الضيّقة للسجن إلى فضاء عام مفتوح، وكشفت أن عائلة جوهر لم تعد تنتظر توضيحات رسمية بقدر ما تسعى إلى الضغط السياسي المباشر. هذا التحرّك حدّ من قدرة الدولة على حصر النقاش داخل أسوار سجن المرناقية، وفرض على الفاعلين السياسيين مواجهة سؤال يتعلّق بدورهم في حماية أبسط مقوّمات العدالة.
في خضم هذا التصعيد، كتب راشد الغنّوشي رسالةً من داخل سجنه شرح فيها أسباب انضمامه إلى الإضراب، ودعا فيها القوى السياسية إلى تجاوز صراعاتها القديمة. أكّد الغنّوشي أن قضية الحرية لم تعد شأناً أيديولوجياً، بل محور مشترك يجمع كل تيّارات المعارضة، وأن اعتقال شخصيات مثل جوهر بن مبارك وعصام الشابي يعكس مسار الثورة المضادّة. دعا الغنّوشي المعارضة إلى التخلّي عن إرث صراعات السبعينيّات والثمانينيّات وبناء جبهة سياسية موحّدة تدافع عن الحرية في وجه سلطة توسّع وصايتها وتضيّق الهامش العام.
تؤكد معركة الأمعاء الخاوية أن السجون أصبحت آخر فضاءات الفعل السياسي في تونس
كذلك، تتالت رسائل المعتقلين المضربين عن الطعام، مؤكّدين صمودهم وتمسّكهم بحقوقهم السياسية والمدنية. في مقابل ذلك، لم يظهر خارج السجون صدى مماثلٌ لحجم التحرّك داخلها. ما تزال الأحزاب والمنظّمات تتعامل مع الإضرابات بوصفها أحداثاً إنسانية لا لحظةً سياسيةً تستوجب فعلاً منظماً، فيما اختار بعض الفاعلين الصمت لتجنّب المواجهة المباشرة مع السلطة. كشف هذا الموقف حدود المعارضة وفقدانها القدرة على تحويل هذه الاحتجاجات إلى لحظة وحدة أو إلى ورقة ضغط فعّالة. وبعد أكثر من أربع سنوات على إجراءات 25 يوليو (2021)، لم تنجح المعارضة في صياغة سردية سياسية مشتركة تفسّر الأزمة أو تحدّد أفقاً لما بعدها، فبدا صوت السجناء أقوى من صوت المكوّنات التي تدّعي تمثيلهم.
دفعت هذه التطوّرات المواجهة إلى مستوى جديد، إذ أصبح الجسد نفسه أداةَ احتجاج بديلة من المؤسّسات. فعندما يعجز المعتقل عن التعبير بحرية، يلجأ إلى إضراب يهدّد حياته، وعندما تغلق الدولة مسارات الحوار يحمل السجن عبء المعركة. لا تعبّر هذه الإضرابات عن قرار فردي بقدر ما تكشف انسداداً سياسياً يجعل الجسد آخر وسيلة ممكنة للمطالبة بالكرامة. ويعكس ردّ الدولة، القائم على النفي والتهديد، عجزاً عن الاعتراف بوجود معارضة شرعية واستمرار التعامل مع أيّ اختلاف باعتباره خطراً أمنياً.
تؤكّد معركة الأمعاء الخاوية أن السجون أصبحت آخر فضاءات الفعل السياسي في تونس، وأن المجال العام في الخارج فقد قدرته على لعب دوره الطبيعي. وإذا استمرّ هذا المسار، ستتراجع السياسة من مستوى الصراع المدني إلى مستوى الاحتجاج البيولوجي، وسيتحوّل الجسد إلى اللغة الوحيدة القادرة على مواجهة دولة ترفض الاستماع. من جانب آخر، لا يمكن لأيّ نظام أن يستمرّ وهو يعاقب خصومه على التعبير، ولا لأيّ معارضة أن تستعيد دورها وهي أسيرة التشتت والخوف. إذ تبدأ استعادة السياسة حين تستعيد المعارضة وحدتها، وحين تقبل الدولة بأن إدارة المجتمع لا تتم عبر الوصاية، بل عبر الشراكة واحترام الحقوق الأساسية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى