مع استمرار الحرب في محيط طرابلس بالصواريخ والمدافع، باتت حياة المدنيين جحيما. يقول قيس الفرجاوي، وهو تاجر يقطن حي أبو سليم، إنه اضطر لمغادرة حيه مع أسرته إلى تونس مؤقتا، “في انتظار انجلاء الصورة”. وشكت الباحثة زاهية فرج علي من تساقط الصواريخ “العشوائية” على مقربة من بيتها في وسط طرابلس، ما تسبب بمقتل بعض جيرانها ومعارفها. وقالت الدكتورة زاهية إن الصواريخ والقذائف “يمكن أن تصيب بيتك في أية لحظة وتدمره بمن فيه”.
وعزا مراقبون استمرار الحرب إلى سيطرة منطق المغالبة والتحريض على القتل على منطق العقل. كما عزوه أيضا إلى انتشار السلاح والانفلات الأمني، وتكاثر ظواهر النهب والسطو والاختطاف وقطع الطرق وترويع المواطنين “من قبل جماعات مسلحة تتقاتل داخل الأحياء السكنية، متخذة من المواطنين دروعا بشرية” على ما ذكر مصطفى اللاعج، وهو من سكان عين زارة جنوب طرابلس. واضطر اللاعج لترك حيه بعد ما صار ساحة وغى. وقال لـ”القدس العربي” إنه ترك فيلا فسيحة ليسكن مع أفراد أسرته في مدرسة بلا حمامات، مؤكدا أن البنية الأساسية في المدارس متردية، وأن الكهرباء كثيرة الانقطاع. ويحدث أن يستمر انقطاعها 15 ساعة، من دون وجود مولدات، وإن وجدت فهي لا تخضع للصيانة.
معاناة… وكلامٌ معسولٌ
إلى ذلك يشكو المواطنون الليبيون من تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع الأسعار وتضخم التوظيفات في القطاع العمومي، ما أدى إلى زيادة البطالة المقنعة، وتدني الانتاجية، وسط انحسار الانفاق الاستثماري، واستخدام إيرادات النفط في نفقات جارية، عوض توجيهها إلى الأصول الوطنية، والتعويل على احتياطات البلد من النقد الأجنبي، لسد العجز عن الانفاق، فضلا عن التقليل من عجز الميزان التجاري.
في هذا الوضع المُنهك لجيب المواطن وللدولة على السواء، تدنت حالة الخدمات إلى مستوى غير مسبوق، وفي مقدمها التعليم والصحة والكهرباء والاتصالات والمياه والنقل وخدمات النظافة. كما أن النزوح أدى إلى تفكيك النسيج الأسري وانتشاره على قدر المناطق التي لجأ إليها النازحون. وبعدما علق الليبيون آمالا كبيرة على مؤتمر برلين، أصيبوا بخيبة أمل نتيجة العجز عن تنفيذ مخرجاته، واستمرار القتال بالرغم من اتفاق موسكو الرامي لوقف إطلاق النار. وأظهرت الإحصاءات أن العام الماضي شهد مقتل وإصابة 647 مدنيا على الأقل، غالبيتهم في طرابلس. كما يقدر عدد النازحين داخل ليبيا بنحو 343 ألفا خلال العام الماضي، ما يعني ارتفاعا بنسبة 80 في المئة، قياسا على 2018، حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
ولم تمنع البيانات الرنانة والكلام المعسول من توسيع رقعة الحرب إلى مناطق جديدة في محيط طرابلس، من بينها محور جديد في القربوللي (بين ضاحية سوق الجمعة ومدينة مصراتة) والعجيلات (80 كلم غرب طرابلس) التي تشرف على مجمع مليتة للنفط والغاز. ويستقبل المجمع الخام من حقلي الفيل والبوري (حقل بحري). ويوجد المجمع، الذي تديره مجموعة “إيني” الايطالية، تحت حماية مدينة زوارة المناهضة للواء حفتر، وهي مدينة غالبية سكانها من الأمازيغ.
والأرجح أن حفتر دفع بتعزيزاته إلى العجيلات، تمهيدا لمحاولة السيطرة على مجمع مليتة، وهو أكبر مجمع طاقي في المنطقة الغربية. لكن أية مغامرة من هذا القبيل سيكون ثمنها باهظا ونتائجها مدمرة، لأن قذيفة واحدة يمكن أن تُشعل المجمع. وأكد المهندس عاشور الحيلي، في اتصال هاتفي من تونس، أن قوة الدفاع عن زوارة استعدت لجميع الاحتمالات، وأن الغرفة العسكرية (اتحادٌ للتشكيلات شبه العسكرية الموجودة في المدينة) أقامت التحصينات اللازمة لمنع أي اختراق من قوات حفتر، مؤكدا أن الأخيرة إن دخلت إلى المُجمع، فلن يكون من السهل إخراجها منه. ويُعتبر مجمع مليتة المنشأة النفطية الوحيدة التي لم يسيطر عليها حفتر، بعدما دفع قبائل موالية له إلى غلق الحقول والموانئ النفطية في المنطقتين الشرقية والجنوبية.
متغيرات
وشكل الدعم العسكري الذي قدمته روسيا إلى قوات حفتر، اعتبارا من 2017 متغيرا أساسيا من المتغيرات التي بدلت وجهة الحرب، وجعلت حفتر على وشك احتلال طرابلس، مع استمرار الدعم الذي يلقاه من الإمارات ومصر وفرنسا والأردن. وأتى الرد التركي داعما لحكومة الوفاق الوطني بإرسال أسلحة متطورة من بينها الطائرات المسيرة والناقلات المصفحة، فضلا عن الخبراء والمستشارين العسكريين. وعندما أكد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أخيرا وجود شركات عسكرية روسية خاصة، تعمل في ليبيا، بإشراف من مسؤولين عسكريين روس، سارع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف إلى نفي تلك الاتهامات. غير أن مؤشرات عدة كشفت أدلة دامغة على الدور الروسي المباشر، إذ أسقطت الدفاعات الجوية لقوات الوفاق في الفترة الماضية طائرة روسية مسيرة، داعمة لحفتر، جنوب طرابلس، ونشر المكتب الإعلامي لعملية “بركان الغضب” صورا لحطامها.
ثلاث مجموعات
وأقر الرئيس الروسي بوتين في 11 الشهر الماضي، خلال مؤتمر صحافي مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في موسكو، بوجود من وصفهم بـ”مواطنين روس في ليبيا” مؤكدا أنهم “لا يمثلون الدولة الروسية ولا يتقاضون أي أموال من الحكومة” حسب قوله. واعترف الناطق باسم قوات حفتر، أحمد المسماري، في تصريحات سابقة، بوجود عسكريين روس يشاركون في الحملة على طرابلس، غير أنه حاول التقليل من عددهم، مُدعيا أن الأمر يقتصر على طاقم أو طاقمين من العسكريين “مهمتهم فنية، استُجلبوا لغرض صيانة المعدات والآليات العسكرية فقط”، على ما قال. كما أماط الطيار المأسور عامر الجقم، اللثام عن تفاصيل بشأن أدوار المرتزقة الروس في ليبيا. ووقع الطيار الجقم أسيرا لدى قوات “الوفاق” وهو من أكد أن عناصر شركة “فاغنر” موزعون على ثلاث مجموعات الأولى متخصصة في استخدام مدافع الهاون، والثانية في الهاوزر، أما الثالثة فمؤلفة من قناصة محترفين. كما يقوم فريق روسي بتشغيل منظومتين للدفاع الجوي والتشويش في مدينة ترهونة، الخاضعة لسيطرة قوات حفتر.
أكثر من ذلك، شكلت زيارة حفتر إلى موسكو الأربعاء الماضي واجتماعه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو، دليلا جديدا على لجوء القائد العسكري للمنطقة الشرقية إلى روسيا، كلما عجزت قواته عن تحقيق تقدم على أرض المعركة. ومع دخول تركيا بقوة إلى ساحة الصراع، بات حفتر لا يرى من بين داعميه الاقليميين والدوليين من هو أقدر من روسيا على ترجيح الكفة. إلى ذلك، أفاد قريبون من حفتر أنه طلب من الروس دعمه دبلوماسيا، في حال اتجه مجلس الأمن إلى إقرار عقوبات ضده أو ضد ضباطه، في أعقاب تعدد الضربات بالصواريخ التي طالت أهدافا مدنية، من بينها ميناء طرابلس ومطار معيتيقة المدني والمدرسة العسكرية بمصراتة. والمُلاحظ أن لجنة العقوبات بمجلس الأمن باشرت أخيرا دراسة أشرطة مصورة تخص دور المرتزقة الروس في ليبيا، لمعرفة طبيعة التعاقد وآلية جلبهم ونوعية مهامهم.
توتر مع الجيران
مع اكتشاف مخزونات كبيرة من الغاز في شرق المتوسط، توصلت تركيا إلى اتفاقين مع حكومة الوفاق الليبية الأول لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والثاني للتعاون العسكري. وتصاعدت حدة التوتر بين أنقرة من ناحية واليونان وقبرص، اللذين انضمت لهما مصر واسرائيل، من ناحية ثانية. ويستعد الأتراك لمباشرة أعمال التنقيب، فيما عطلوا الاستكشافات التي كانت قبرص تعتزم القيام بها، لأن خط الترسيم الذي وضعوه لا يبعد كثيرا عن السواحل القبرصية. ويستبعد المحللون أن تُقدم تركيا على عمل عسكري ضد قبرص، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، لكنهم توقعوا أن تكثف الضغط على القبارصة اليونانيين لإثنائهم عن مواصلة الاستكشافات.
وكان الرئيس التركي أعلن أواسط كانون الثاني/يناير الماضي، أن بلاده تستعد لإطلاق أعمال التنقيب والاستكشاف في المناطق المتنازع عليها، والتي يُرجح أنها تحتوي على مخزونات كبيرة من النفط والغاز. وبحسب خبراء نفطيين سيُؤخر الاتفاق التركي الليبي على ترسيم الحدود، الانطلاق في بناء أنبوب الغاز “إيست ميد” (شرق المتوسط) لأن الأتراك يعتبرون المناطق البحرية سيعبرها جزءا من مياههم الاقليمية. وكانت اليونان واسرائيل وقبرص وقعت في أواسط كانون الثاني/يناير الماضي على مشروع مد أنبوب “إيست ميد” غير أن بعض المحللين لا يتوقعون أن يُبصر النور، لأن الزبون الوحيد ليس سوى تركيا. ويتمثل الهدف الأول من المشروع في إقامة أنبوب بحري يُصبح حلقة مهمة في سلسلة تموين أوروبا بالغاز الطبيعي. لكن يُعتقد أن تركيا تستطيع إبطال العمل في إنجاز المشروع بإرسال مزيد من قواتها البحرية والجوية إلى شمال قبرص (التركية)، مع احتمال إقامة قاعدة عسكرية في ذلك الشطر من الجزيرة. في المحصلة تتوسع تركيا على ضفاف البحر المتوسط شرقا (سوريا) وجنوبا (ليبيا) وهي تنتهز، كما الروس، إخفاق باريس وروما وبرلين في تطويق الحريق الليبي، لتنتزع الملف من أيدي أوروبا وتفرض “حلها” على الجميع. وبتعبير آخر، فإن تعطُل تنفيذ مخرجات برلين، وخاصة تعثر اجتماعات المسار العسكري 5+5 في جنيف، سيضع الملف الليبي بين أيدي الروس والأتراك، فتكون ليبيا امتدادا للصراع الدائر بينهما في سوريا، بأشكال أخرى. وفي هذا الإطار تندرج زيارة السراج إلى اسطنبول واجتماعه الخميس الماضي، مع اردوغان، وزيارة حفتر إلى موسكو ولقاؤه وزير الدفاع شويغو، فالزيارتان تمهدان لمرحلة جديدة… قد تطول.
المصدر: القدس العربي