واشنطن – دمشق.. اختبار النوايا قبل كسر الجليد؟

صهيب جوهر

لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل محطة مفصلية أعادت فتح النقاش حول موقع سوريا الجديد في النظام الإقليمي والدولي قيد التشكل.
فالضجة التي رافقت طريقة دخوله إلى البيت الأبيض، وغياب المؤتمر الصحافي المشترك، والتباين في الرسائل الصادرة عن الطرفين، لم تُخفِ أن اللقاء نفسه يعكس انتقالاً تدريجياً في النظرة الأميركية إلى السلطة الجديدة في دمشق، ولو أن النتائج الفورية بقيت محدودة ومحاطة بكثير من الحذر.
ففي حين انشغل المراقبون بتحليل الرموز الشكلية، يبدو أن الحسابات الأميركية تتعلق بمرحلة أبعد بكثير من التفاصيل البروتوكولية. فواشنطن تنظر إلى سوريا باعتبارها نقطة ارتكاز في إعادة ترتيب شرق أوسط تتغير خرائطه السياسية والأمنية بسرعة، وتدرك أن استقرار الدولة السورية الناشئة – على هشاشتها الإدارية والعسكرية والاقتصادية – يشكّل مدخلاً ضرورياً للحفاظ على مصالحها ومنع القوى الإقليمية الأخرى من ملء الفراغ.
ومع أن سوريا اليوم تشرع في بناء مؤسساتها من الصفر تقريباً، بدءاً من القضاء ومروراً بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ووصولاً إلى إصدار عملة جديدة، إلا أن الولايات المتحدة تعتبر هذا الواقع فرصة لتوجيه مسار الدولة نحو نموذج يتلاءم مع متطلبات المجتمع الدولي، ويتيح تحجيم أي عودة للنظام السابق أو لمنظومته أو ارتباطاته السابقة بإيران وحزب الله.
تظهر إسرائيل سعياً واضحاً لفرض وقائع ميدانية مستمرة وجديدة في الجنوب، في حين تحاول تركيا توسيع نطاق نفوذها شمالاً، وتراقب روسيا من الساحل محاولة تثبيت حضور طويل الأمد يمنحها موقعاً متقدماً في التوازنات المقبلة.
ومع أن الشرع ورث دولة بلا جيش منضبط وبلا مؤسسات مكتملة، فقد استطاعت دمشق استثمار مرحلة الانتقال السياسي لإعادة فتح خطوطها الدبلوماسية شيئاً فشيئاً، بموازاة تفكك تدريجي للعقوبات الغربية وعودة بعثات عدة إلى أراضيها. هذا المسار، وإن كان بطيئاً ومشحوناً بالحسابات، يندرج في سياق رغبة دولية بإعادة إدماج سوريا في المنظومة الإقليمية، شرط أن تلتزم بضوابط جديدة في الحكم والإدارة والعلاقات الخارجية.
واللافت أن المسار الأميركي تجاه سوريا لم يبدأ من واشنطن، بل من الرياض وأنقرة، حيث لعب ولي العهد السعودي والرئيس التركي دوراً محورياً في التمهيد لأول لقاء بين الشرع وترمب. وهذا التحول يعكس وجود تفاهم ضمني بين واشنطن والرياض وأنقرة على إدارة “الورشة السورية”، وتقاسم النفوذ والتأثير داخل المشهد الجديد. وتبدو الولايات المتحدة مصممة على إحكام قبضتها على زاويتين من زوايا الجغرافيا السورية، من التنف إلى الحدود الشمالية الشرقية وصولاً إلى منطقة جنوب دمشق.
هذا المشهد ينسحب أيضاً على علاقات سوريا بجوارها، حيث تظهر إسرائيل سعياً واضحاً لفرض وقائع ميدانية مستمرة وجديدة في الجنوب، في حين تحاول تركيا توسيع نطاق نفوذها شمالاً، وتراقب روسيا من الساحل محاولة تثبيت حضور طويل الأمد يمنحها موقعاً متقدماً في التوازنات المقبلة. أما واشنطن فتركّز على بناء شبكة مصالح عابرة للملفات المحلية، تبدأ بإعادة دمج الأكراد والدروز في بنية الدولة الجديدة، ولا تنتهي عند مشاريع الاستثمار التي ترغب شركات أميركية وخليجية في ضخها داخل الاقتصاد السوري.
والزيارة نفسها كشفت عن رغبة أميركية في اختبار نيات الشرع أكثر مما كشفت عن استعداد لاتخاذ قرارات نهائية. فغياب أي إعلان واضح بشأن العقوبات أو الانضمام للتحالف الدولي ضد الإرهاب، يشير إلى رغبة في إبقاء مسار التطبيع مشروطاً بأداء الحكم في دمشق خلال الأشهر المقبلة. ولعل إشارات الشرع عن التقدم في المفاوضات مع إسرائيل، واعتبار بلاده قطعت “شوطاً جيداً نحو اتفاق”، فتحت باباً حساساً في واشنطن، لكنها لم تكن كافية لإقناع الإدارة بالمضي في خطوات رفع القيود المالية والاقتصادية دفعة واحدة، خصوصاً أن الكونغرس ما زال يتمسك بـ”قيصر” كوسيلة ضغط سياسية.
ورغم ذلك، فإن لقاءات الشرع في واشنطن، من بينها اجتماعات مع أعضاء مؤثرين في الكونغرس، أظهرت أن مسألة إعادة تموضع سوريا داخل النظام الدولي باتت مطروحة بجدية أكبر. وقد شكّل اللقاء المفاجئ مع النائب برايان ماست مثالاً على قدرة شبكات الضغط الكردية والسورية في واشنطن على طرح السوريين الجدد بطريقة مختلفة، وإن كان ماست نفسه من أشد المتحفظين على رفع العقوبات.
واشنطن ترى في إعادة إنتاج الدولة السورية، وفي انتظام مؤسساتها الأمنية والسياسية، شرطاً ضرورياً لحماية استقرار لبنان ومنع تمدد الفوضى جنوباً وشرقاً.
اللحظة التي يمثلها الشرع في التاريخ السوري ليست اعتيادية. فالرجل يقود بلداً يخرج من انهيار كامل، ويتعامل مع ملفات متداخلة من الانتقال السياسي إلى تفكيك النفوذ الإيراني إلى محاولة إعادة بناء علاقة متوازنة مع موسكو والصين والأوروبيين أيضاً. وواشنطن، من جهتها، تبدو معنية بتثبيت اتجاه دمشق بعيداً عن طهران، وبضمان أن التحول الجاري لن يكون مرحلياً أو قابلاً للانتكاس. ومن هنا يمكن فهم الإشارات التي أرسلها ترمب عن “الشراكة المحتملة” مع الشرع، رغم أن البيت الأبيض لا يزال يتعامل مع الملف بطريقة تجريبية تحفظ له هامش التراجع والضغط.
سوريا، من جهتها، تحتاج إلى اعتراف دولي يوقف التدخلات الإسرائيلية ويمنحها هامشاً لإعادة ترتيب الجنوب، كما تحتاج إلى مظلة أميركية تساعدها على استيعاب الأكراد ضمن بنية الدولة ومنع تجدّد النزاعات الداخلية، إضافة إلى دور روسي في ضبط الحساسيات داخل الساحل. أما العلاقة مع الصين فتتطلب جهود تهدئة بعد الاتهامات التي طاولت دمشق بشأن دور الإيغور.
ورغم أن الزيارة تمحورت حول مستقبل سوريا ودورها في الإقليم، فإن انعكاساتها على لبنان لا يمكن تجاهله، خصوصاً أن واشنطن باتت تتعامل مع الساحتين كملفين مترابطين لا يفصل بينهما سوى حدود جغرافية تآكلت وظيفتها منذ سنوات. فالمقاربات الأميركية الأخيرة، سواء عبر تصريحات توماس باراك أو جولات مورغان أورتاغوس أو عبر الرسائل المباشرة التي حملها وفد سيباستيان غوركا إلى بيروت، تُظهر أن واشنطن ترى في إعادة إنتاج الدولة السورية، وفي انتظام مؤسساتها الأمنية والسياسية، شرطاً ضرورياً لحماية استقرار لبنان ومنع تمدد الفوضى جنوباً وشرقاً.
فالحدود اللبنانية ـ السورية لم تعد مجرد خط عبور، بل صارت، بنظر الإدارة الأميركية، واحدة من نقاط اختبار الترتيبات الجديدة في المنطقة، سواء لجهة ضبط حركة السلاح والمال، أو لجهة الحدّ من أي نفوذ يستفيد من هشاشة الدولتين معاً. وفي هذا الإطار، بدا لافتاً أن بعض الأوساط في واشنطن تتعامل مع صعود الشرع كعامل يمكن أن يعيد التوازن إلى علاقة بيروت بدمشق، من دون العودة إلى نمط الوصاية السابقة، بل عبر مقاربات أكثر براغماتية يُعاد فيها تنظيم المصالح المشتركة على قاعدة احترام الحدود السياسية لا الأمنية فقط.
في المحصلة، حملت زيارة الشرع إلى واشنطن مزيجاً من الرمزية والاختبار السياسي. فلا هي مثّلت اختراقاً نوعياً، ولا بقيت ضمن حدود البروتوكول. وهي خطوة في مسار طويل، لا تزال فيه الولايات المتحدة تقيس أداء القيادة السورية، ولا تزال فيه دمشق تحاول استثمار اللحظة الدولية لإعادة تثبيت نفسها كدولة قابلة للحياة وسط شبكة مصالح متشابكة. والزيارة لم تُنهِ الأسئلة، لكنها وضعت سوريا على طاولة القرار الأميركي مجدداً، بطريقة تختلف تماماً عما كان عليه المشهد في العقدين الماضيين مع بشار الأسد وحزب البعث.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى