سيرة رجل عاش من أجل الوطن لا من أجل الأضواء من سيرة المناضل عمر حسين الشيخ حرب

جمال حرب

> لم تكن يافا بالنسبة لعمر حسين الشيخ حرب مجرد مدينةٍ عاش فيها طفولته، بل كانت أول نافذةٍ يطلّ منها على العالم، ومهد الذاكرة التي تفتّحت على رائحة البحر والبرتقال وصوت الباعة في الأسواق القديمة.
كانت شمس يافا تسكب دفأها على الميناء فيغدو كلوحةٍ زرقاء يقطّعها ضوء المراكب العائدة. هناك كان عمر الصغير يرافق عمه محمود الشيخ حرب إلى الشاطئ برفقة ابن عمه عبد الرحمن، يشتري لهما البوظة والحلوى، ثم يجلسان على الصخور يتأملان الأفق البعيد كأنهما يبحثان فيه عن وطنٍ أكبر من المدينة.
في أحد الأيام، زارهم ابن عمهم أبو جاك قادمًا من قريتهم المرج في البقاع الغربي، يحمل في جعبته حكاياتٍ عن السهل الممتد بين جبلين، وعن مواسم القمح والكروم، وعن ينابيع الماء التي لا تنضب. كانت قصصه توقظ في الكبار حنينًا قديمًا، وتزرع في قلب عمر الصغير صورةً أولى عن لبنان، الوطن الأم الذي لم يعرفه بعد.
وفي صباحٍ من صيف تلك السنوات، خرج عمر برفقة ابن عمه محمد (أبو جاك) إلى سوق يافا المزدحم بالباعة والمارة. كان السوق يعجّ بالحياة: أصوات الباعة، رائحة الخبز الطازج، ونداءات النساء اللواتي يساومن على الأسعار. وبين الزحام، توقّف عمر فجأة أمام واجهة محلّ للأقمشة، وقد شدّت نظره بزّة عادية معلّقة على الباب — بلونٍ يشبه بزّته التي اشترتها له أمه قبل أسابيع.
ظنّ الطفل لوهلةٍ أنها بزّته بالذات، فاغرورقت عيناه بالدموع وراح يبكي بحرقةٍ طفولية، متشبّثًا بكمّ ابن عمه.
التفت إليه محمد (أبو جاك) مبتسمًا وهو يربّت على كتفه قائلًا ليُسكته:
“اسكت يا عمر… البزّات بتتشابه يا ولد.”
لكن عمر ظلّ يحدّق بها بعينين دامعتين، غير قادرٍ على شرح شعوره، كأنما أدرك في داخله أن ما يتشابه في الشكل لا يتشابه في الروح، وأن بعض الأشياء حين تُسلب لا تُعوّض.
ولم تكد تمر لحظات حتى دوّى انفجارٌ عنيف في الجهة المقابلة، هزّ الأرض تحت قدميه، وتصاعد الدخان من جهة دار السينما القريبة. ارتبك الناس، وارتفعت الصرخات، وراح محمد يمسك بيده، يركضان وسط الجموع في مشهدٍ من فوضى وخوف.
عندما وصلا إلى البيت، وجدا أمه واقفةً أمام الباب، شاحبة الوجه، تلتفت نحو الطريق كل لحظة علّها تراه قادمًا. وما إن لمحته حتى اندفعت نحوه واحتضنته بقوةٍ، كأنها تعيد له الحياة. بعد قليل، وصلت سيارات الجيش الإنجليزي إلى مكان الانفجار، وجنودٌ يجوبون الأزقة ويفتشون البيوت، فيما خيّم على المدينة صمتٌ ثقيل يشبه الحداد.
مع مرور الأيام، راحت الأحاديث في مجالس الكبار تتغيّر. أسماء غريبة بدأت تتردّد: الهاغاناه، الأرغون، شتيرن… كلمات لم يفهمها عمر يومها، لكنها حملت نبرة خوفٍ لا تخطئها أذن.
وفي المساء، كان يسمع والده وعمه يتحدثان عن وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو، وعن مؤامرةٍ قُسمت فيها البلاد على الورق بينما الناس يحلمون بالحرية. لم يكن يدرك معناها بعد، لكنه كان يشعر أن العالم البعيد يتحكّم بمصير مدينته الجميلة، وأن الغيوم السوداء تقترب.
ومع اشتداد الأحداث وتكاثر الاعتداءات، قرّر والده حسين الشيخ حرب وعمه محمود أن يغادروا يافا مؤقتًا إلى قرية يازور القريبة، حيث كانت خالته تمتلك بيتًا كبيرًا تحيط به بساتين البرتقال. هناك، وسط الأشجار، استعاد عمر لحظاتٍ قصيرة من الطفولة.
كان مع أبناء جيله يركضون بين الأغصان، يقطفون البرتقال ويضحكون، والبراءة تملأ أعينهم. لم يكونوا يعلمون أن طفولتهم تلك ستكون آخر عهدهم بالأمان.
ثم اشتدت نذر الحرب، وبدت فلسطين على شفا الانفجار الكامل. عند المساء، جلس والده وعمه تحت ضوء المصباح يتشاوران في أمر العائلة ومستقبل الأولاد. وفي النهاية، اتُّخذ القرار الأصعب: العودة إلى الوطن الأم، لبنان، إلى المرج في البقاع الغربي، علّهم يجدون هناك بعض الأمان.
وفي تلك الأيام، ولدت ابنة جديدة لأمّ عمر، فسمّوها عايدة — على أمل العودة إلى يافا. كان الاسم وعدًا صغيرًا بالحلم، لكنه ظلّ وعدًا مؤجّلًا لم يتحقق.
رحلوا من مرفأ يافا مع أقاربهم وآخرين من أبناء المدينة. كان المركب الخشبي يعجّ بالرجال والنساء والأطفال، والوجوه متعبة يختلط فيها الخوف بالرجاء. كانت أمه تحتضن الصغيرة وتهمس باسمها كأنها تعمّدها بالحنين، فيما كان البحر من حولهم يمتدّ بلا نهاية، تتلاطم أمواجه كأنها تبكي المغادرين.
على البعد، بدت يافا تبتعد شيئًا فشيئًا، غارقة في الضباب والدخان. التفت عمر من على ظهر المركب، يحاول أن يحفظ ملامحها الأخيرة في ذاكرته، لا يعلم أنه يودّعها إلى الأبد.
بعد سنواتٍ طويلة، حين كبر عمر وذاق مرارة الظلم وخذلان بعض الرفاق الذين استقوا بالنظام الأمني السوري، كان يعود بذاكرته إلى تلك الرحلة. كان يدرك أن جذور المأساة لم تبدأ في يافا، بل في تلك الخرائط المرسومة في العواصم البعيدة، حيث قُسمت الأوطان كما تُقسَّم الغنائم.
وكان يقول في تأملاته:
“من وعد بلفور إلى سايكس بيكو، كتبوا قدرنا بالحبر الأجنبي، لكننا كتبناه بالدم والذاكرة، وما زال في القلب متّسعٌ للعودة.”
بداية الفصل الثاني: العودة إلى المرج – البقاع الغربي
> الطريق إلى المرج كان رحلة عودةٍ إلى الجذور، لا إلى الراحة.
من مرفأ بيروت اتجهت العائلة نحو الداخل، صعودًا باتجاه البقاع. كلما ابتعدوا عن البحر، تبدّل الهواء ورائحة الأرض. وعندما لاح لهم السهل الفسيح الممتد بين جبلين شامخين، شعر الأب أن قلبه عاد ينبض من جديد.
اواسط القرن التاسع عشر بداية الخمسينات
هناك، في بلدته المرج، ستبدأ مرحلة جديدة من حياة عمر حسين حرب — مرحلة الطفولة الريفية، والتعليم الأول، وبذور الوعي الوطني التي ستنمو مع الأيام وتحوّله إلى مناضلٍ لا يساوم على الحق ولا يبدّل انتماءه.

تكملة الفصل الاول
الفصل الأول: يافا بين البحر والبرتقال (1943–1947)

المصدر: صفحة جمال حرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى