العنف الطائفي بين أجساد النساء وبنية الدولة والكسب السياسي

عصام شعبان

أعادت حادثة العنف الطائفي في قرية في محافظة المنيا في صعيد مصر، التي اندلعت بعد شائعة عن علاقة بين فتاة مسلمة وشاب قبطي، فتح النقاش بشأن هذا النمط من الأزمات، التي يظهر فيها عنفاً مجتمعيّاً ودينيّاً، وكيفية تعامل الدولة لمعالجتها، ما دفع قوى المجتمع المدني إلى استشعار الخطر، والمطالبة بمسارات بديلة تستند إلى الحقوق المدنية، وسيادة القانون وتطبيق الدستور، بما في ذلك التزام الدولة اتخاذ تدابير لازمة للقضاء على كل أشكال التمييز.
ويأتي هذا المشهد ضمن سياقات تكرّر مواجهات ذات طابع طائفي، سواء إذا كان السبب المباشر خلافاً ماليّاً، أو اعتراضاً على بناء دور عبادة، أو إشاعة عن علاقة بين طرفين مختلفي الديانة، ودعاوى حول اختطاف النساء، وتغيير ديانتهن قسراً، ما يظهر حالة التوجّس من الآخر، مقرونة في نظرة أبوية إلى النساء بوصفهن قاصرات، يحتجن الحماية والوصاية، وينتقل خلالها مفهوم شرف العائلة ليصبح عنواناً للتوتر، ويتحوّل جسد المرأة إلى ساحة مواجهة حول الهوية الدينية.
وتُثير المقاربات الرسمية قلق قوى من المجتمع المدني، حيث ما زالت تميل إلى الحلول الأمنية، بجانب الخطاب الرمزي المطمئن للأقباط بوصفهم تحت رعاية الدولة، مع اتجاه أقرب إلى إنكار المخاطر، واعتبار كل واقعة مشكلة فرديةً عابرةً يمكن حلها بجلسة صلح، في نهج يتجاهل الأسباب البنيوية، وحتى المحاولات التي سعت للمعالجة على مستوى قومي، لم يلحظ لها نشاطٌ ملموسٌ لدعم ثقافة التسامح، كما المجلس القومي لمواجهة الإرهاب والتطرف (2017). وتالياً، تأسيس اللجنة الوطنية لمكافحة الطائفية (ديسمبر/ كانون الأول 2018). وتحولت الأخيرة، كما غيرها من لجان عليا، غير منظورة في الواقع، ما يشير إلى قصور المعالجة المؤسّسية ومحدوديتها، وحتى المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي كان يصدر تقارير تقصّي حقائق ورفع توصيات، بناءً على أبحاث ميدانية سريعة، تراجعت أنشطته في هذه القضية.
يتحوّل جسد المرأة إلى ساحة مواجهة حول الهوية الدينية
ومع الواقعة التي استنجدت أخيراً، دانت سبعة أحزاب ومنظمات حقوقية ونواب اللجوء إلى “الجلسات العرفية” باعتبارها استمراراً لمسار يهمّش القانون لصالح العرف، حيث تفرض آلية تقليدية للتصالح من دون ضوابط، ورغم أنها قد تنجح في استعادة الهدوء مؤقّتاً عبر فرض غرامات مالية وتهجير لأطراف المشكلة، إلا أنها تفشل في معالجة جوهر التوترات، وتكرّس للإذعان، حيث تُعزز بتفاهمات ضمنية بين قيادات محلية وأجهزة أمنية، بهدف التهدئة السريعة وإنهاء المشكلة، لكن جذور الأزمة تبقى فيتجدد التوتر، وتتخذ هذه الآليات العرف شعارًا لها، لكن ليست طريقًا لتفكيك التمييز أو الحد منه، بل أحياناً تُشرعنه، بحكم توازنات القوى ومكونات القائمين عليها، وهم يمثلون شبكة من أصحاب النفوذ المرتبطين بأجهزة الدولة، وغالباً ما يكونون جزءاً من البناء السياسي المرتبط بالنظام، وهنا، يصبح الرأي القائل بغياب الدولة غير دقيق، إذ تحضر عبر وكلائها في ممارسة ضبط غير رسمي يهمّش القانون لصالح العرف، في الوقت نفسه يجري استثمارها سياسياً، لتحقيق مكاسب على جانبين، تعزيز النفوذ في المجتمع المحلي ولدى السلطة، بوصف أنهم قادرون على الضبط وتحقيق الاستقرار، وبالتالي لها وزن مجتمعي يؤهلهم لشغل مواقع سياسية، وأحياناً تُوظّف ضمن تنافس سياسي. وإحدى الأزمات في هذه المجالس، كون أفرادها ليسوا بالضرورة قيادات طبيعية محل قبول، غير افتقادهم قدرة على التحكيم بين متخاصمين، وطبيعة تكوينهم وعملهم في ظل السلطوية وثقافة التمييز وإيمانهم بفكرة الردع.
إجمالاً، يجري استثمار المجالس العرفية، وهي أقرب إلى ساحة تمثيل وكلاء الدولة والنظام، وفي الوقت نفسه، فضاء نفوذ يراعي مصالح القائمين عليها، ولو على حساب النزاهة الواجبة للحكم بين طرفين، وهو ما تظهره آليات العقاب التي تتضمن أحياناً أحكاماً بغراماتٍ مليونية، وحكماً بالتهجير، وإبعاد أطراف من المشكلة، وهي، في النهاية، معالجاتٍ تبقي جذور الأزمة قائمة.
وضمن ملامح هذه الأزمات، سهولة انتقالها جغرافياً، وهو أمرٌ دالٌّ على أنها ليست معزولة عن السياق الذي تجري فيه، ولا إمكانية لعزلها أيضاً، إذ تشابهت الدوافع المؤهلة لحدوثها، بما فيها الظروف والبيئة الاجتماعية المشتركة وعلاقات الجوار والنسب وشبكات الاتصال. وبين دلائل التماثل والامتداد، في وقائع سابقة، ما جرى في محيط مركز نجع حمادي وقرية بهجورة بمحافظة قنا، وفي الرحمانية بدير مواس، وكان مركز بني مزار محلاً لواقعة المنيا التي ينتقل التوتر بين مناطقها، أبو قرقاص ومطاي وسمالوط، ليؤكد ارتباطه بشبكة معقدة من العلاقات، وتشابه الظروف الاجتماعية، وثقافة الانتقام والمظلومية، بجانب تشارك في الظروف الاقتصادية والتهميش، ما يؤشّر إلى أن هذه الحالات ليست مشكلات فردية معزولة، في صعيد مصر، أو حالات أخرى، في ضواحي القاهرة وأطرافها. ولا ترتبط وحسب بكثافة سكانية للأقباط فيها، بل أيضاً بجملة من الأسباب، ترتبط بمستوى المعيشة والتنمية ونمط العلاقات بين أهليها، وتراجع عمليات الاندماج والتشارك في أنشطة اجتماعية وثقافية وسياسية، لصالح الانغلاق، وتوجه نحو الانعزال والتباعد نمطاً للعيش، ما يسهل نشأة التوتر.
وبجانب ملمح التوظيف السياسي للمجالس العرفية، وارتباط العنف بأسباب بنيوية، تتجلّى إحدى أبرز سمات المشهد في تركّز العنف على أجساد النساء؛ حيث تتقاطع قضايا الجندر مع العنف الطائفي، ويرتبط بنظرة تختزل المرأة موقعاً للشرف، تحتاج الوصاية، فيُعاد إنتاج الجسد الأنثوي رمزاً للجماعة والهوية. وكثيراً ما تتحوّل شائعة علاقة بين طرفين من ديانتين مختلفتين إلى تهديد يستدعي التكتل، وتُحمَّل النساء مسؤولية “شرف الجماعة”، ويُنظر إليهن على أنهنّ قُصّر، فيُنتج ذلك وصماً، ومن الوارد في إطار التوترات انتشار (وتوظيف) شائعات بشأن خطف النساء، ما يعبّر عن هواجس ومخاوف. كذلك يكرّس العنف ضد النساء، كما جريمة تعرية السيدة سعاد ثابت في المنيا، أيضاً، التي انتهت رحلة التقاضي في سبع سنوات ببراءة المتهمين بالاعتداء على المسنّة وتجريدها من الملابس في الشارع، ما يعني التطبيع مع العنف، وإفلات المعتدين، وبقاء شعور المعتدى عليها بالظلم، كما حالة السيدة التي دُفعت إلى ترك بيتها بعد حرقه وطردها من القرية، وحتى بعد أن رمّمته أجهزة السلطة، لم تستطع العودة إليه، حسب شهادة لها، وهو ما يعني استمرار الخوف من ضغوط المجتمع المحلي أيضاً، الذي كان بين قيادته من يسعى إلى عقد جلسة صلح.
العنف ضد النساء، يأتي ضمن سياق أزمة مركبة ومتعدّدة الجوانب
وتثير هذه الواقعة بكونها مثالاً، وما تلاها، التساؤل بشأن جدوى خطاب تمكين النساء وتخصيص مقاعد لهن وللأقباط، وهل ساهم فعلاً في تحسين وضع الفئتين، أم كان إجراءً ضمن ترتيب صفوف السلطة ودعمها، ولم يُحقَّق تمثيلٌ وتغييرٌ بفعل “الكوتا”، حتى إن مجلس النواب على مدار دورتين (2016 – 2025) لم يستجب لمقترح مشروع قانون لإنشاء مفوضية مناهضة التمييز، حسب ما أوصى الدستور، رغم وجود كتلة وازنة، من نواب على مقاعد مخصّصة للأقباط والمرأة.
وفي كل الأحوال، لا يمكن تفسير وقائع العنف أفعالاً فردية؛ فهي تتغذّى على مجموعة من العوامل المركبة، وحالة المفقرين الذين يواجهون الضغوط الاقتصادية ويعانون أزمات متشابكة، وبيئاتهم الاجتماعية تتضمن محفزات للعنف، كما الشعور بالإحباط والاغتراب والظلم، إضافة إلى ما يرسّخه التهميش من إحساس بالاغتراب والخوف والتهديد، وهو ما يزداد، بطبيعة الحال، عند الأقليات. كذلك إن تراجع الشعور بالمواطنة لصالح الطائفة، وغياب إمكانية التعبير السلمي عن المظالم، يدفعان إلى التخندق خلف الانتماءات الأولية، ليتحوّل الدين إلى هوية تمثيل تحمل معها المظلومية الاجتماعية والدينية معاً، في شكل توتر اجتماعي يأخذ منحىً دينياً، رغم أن الطرفين يعيشان الظروف القاهرة نفسها، لكن الصراع من أجل تحسين أحوالهم يتحوّل إلى مسارات أخرى. إلى جانب ذلك، تبقى مشكلات تخص الأقباط، بينها ما يتعلق بدور العبادة، ورغم صدور قانون بناء الكنائس عام 2016، الذي أتاح تقنين خمسة آلاف منشأة، لا تزال خلافات تظهر حول الإنشاء والترميم، وتشكّل أحياناً بؤراً للاحتقان. بل في السياق ذاته، احتُجز أقباط من المنيا خلال 2022 حين تظاهروا مطالبين بالسماح بترميم كنيسة سبق وأُحرقت في 2016، وهذا انتهاك مزدوج، ما يرسخ شعوراً بالمظلومية، وما يترتب عنه من آثار نفسية، وسلوك اجتماعي يغذي العنف أيضاً.
يبدو غريباً على مصر أن تظهر فيها وقائع من التمييز بين سكانها بهذه الكيفية من العنف والتواتر، تمسّ الأقباط، وهم الأكثرية المسيحية عربياً
يتطلب كسر هذه الحلقة ترسيخ المواطنة واحترام الاختلاف في مقابل مفهوم الرعاية، ويتصل الأمر أيضاً، في جانب منه، برفض مفهوم الوصاية القائمة على أساس الدين أو النوع، وضبط استخدام الأساليب العرفية في مثل هذه المشكلات، من دون نفي لدور القيادات الطبيعية في حل مشكلات الواقع المحلي، بوصفهم جزءاً من المجتمع المدني بمفهومه الواسع، وقد حقق هذا النموذج دوراً في حالات الثأر.
وأخيراً، لا يمكن التعاطي مع معالجة العنف، خصوصاً القائم على النوع، ضمن منظور التقاطعية كتفسير يجمع بين الدين والطبقة والنوع والاقليم، بوصفه خلافاً ومشكلة فردية، بل هو انعكاس لبنية السلطة والمجتمع وموقع النساء ونظرة المجتمع لهم، والعنف هنا ضد النساء، ضمن سياق أزمة مركبة ومتعدّدة الجوانب، ودراستها ضرورة لإنتاج معرفة محلية وميدانية حقيقية، تتجاوز عموميات الخطاب الرسمي السائد، أو الخطاب الذي ينتقده. وفي ذلك، يمكن أن تساهم كليات العلوم الإنسانية، في جامعات الصعيد خصوصاً، ومنها أسيوط والمنيا وجنوب الوادي، بشرط تجاوز القيود التي فرضها النظام على العمل الأكاديمي ونظرته القاصرة للعلوم الإنسانية، وحالة تفكيك الارتباط بين الجامعة ومشكلات المجتمع المحلي.
تظهر في تاريخ مصر حالة التعايش وتعدد الثقافات، وقدرة شعبها على التكيف والمرونة، غير مؤشرات حول التسامح وقبول الآخر، وقدرة غير المصريين على الإقامة فيها. ولكن، يبدو غريباً عليها أن تظهر فيها وقائع من التمييز بين سكانها بهذه الكيفية من العنف والتواتر، تمس الأقباط، وهم الأكثرية المسيحية عربياً، نحو 15 مليوناً، يمثلون تقريباً 10% من السكان، كذلك فإنه ليس من الحكمة، بل إنكار الوقائع يعد خطيئة، بينما المواجهة الشاملة ضرورة، بدلاً من التجاهل أو الاستهانة خوفاً من تشويه الصورة، ومعالجة أزماتٍ تُعمّق الجراح وتزيد المظلومية، وأهم من التصوّرات التي تريد أي جهة أو سلطة بناءها عن نفسها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى