الخوارزميات.. بين المؤثر والمثقف والصحفي

محمد الحموي كيلاني

منذ سنوات ونحن نكرر بإيقاع المتململ المريض، أو المترقب الذي يطمئن نفسه بأن المثقف ليس مؤثراً، إلا أنه ضروري. نرددها كما نردد طقوساً بحكم العادة، في محاولة للتشبث أمام طوفان العولمة. ثم ما نلبث أن نفتح هواتفنا لمشاهدة مؤثرٍ يحظى بملايين المتابعين، لا لشيء إلا لأنه أجاد الشعبوية، أو فن التبسيط والتسويق، ولأن الخوارزمية اختارته بوصفه الصيغة الأجدى لضمان التفاعل.
ربما لم نعد في عصر السرعة فحسب، بل في عصر التسارع المجنون. ومصطلح “الزمن الجميل” اختلفت مقاييسه وأطواره وأبعاده، لتتقلص من جيلٍ وأكثر إلى عشر سنواتٍ وأقل بكثير، أمام تطورٍ متسارعٍ يُظهر ما خلفه بسيطاً ومتواضعاً. أمام الخوارزميات، هذا الظل الثقيل، الذي لن يتوقف إلا بمضغ ملامحنا وإعادة تشكيلها، وبثّها على هيئة أرقام ومؤشرات وزمن مشاهدة، ليجلس المثقف في هذا المساء الرقمي الهائل مذعوراً متباكياً، أو متذاكياً على أطراف ما تبقى من الحضور، ليسأل نفسه: أين أنا من هذا الخراب وهذه الفوضى؟ وهل للكتابة والتأليف، تلك الموهبة الفكرية والإبداعية، تلك المهنة القديمة، مكان في هذا السوق المليء بالصراخ والفوضى؟ وهل من صمودٍ أمام خوارزميات التفاعل، أمام السيد الجديد والإله البديل عن الحقيقة، ذلك المصطلح الذي تُدار به المؤسسات الصحفية، وتُفصل له مقاسات الوظائف، وتُمنح المنصات؟ فالكلمة الفصل هي للعائد الاستثماري للفكرة، والقيمة الرقمية في تقييم كل منتوج أو عبارة، حتى لو كانت تافهة، خاوية، ولا تساوي كيس رقائق فارغ.
الصحافة في خطر كبير إن فتحت أبوابها تحت وهم البقاء في السوق، تعرض ذاتها للبيع إن لم تفرق بين المثقف والمؤثر، إن لم تقدّم المثقف باعتباره ليس حامل معلومة فحسب، بل حارس قيم.
ففي زمن الخوارزميات لم يعد الكاتب يُسأل: ماذا كتبت؟ بل: كم “لايك” حصدت؟ وفي زمن صحافة الهلع، لم يعد التحرير يتطلب زمناً، ولا الخبر يتطلب مصدراً صحيحاً موثوقاً، بل مجرد صحافة صفراء، بصياغة عناوين تحفّز الضغط السريع، ليُحتسب في سجل المعلنين.
حين كان نجيب محفوظ يخطو نحو مقهى الأوبرا في القاهرة، ومحمد الماغوط ونزار قباني في مقهى الروضة بدمشق، لم تكن مهمتهم مرتبطة بجداول النشر اليومي، ولم يكن هناك تطبيق يقيس تأثيرهم مع كل دقيقة، بل باتكائهم على المخيلة واللغة، وبشعورهم بالمسؤولية لا بالتنافس. فمثقف اليوم إن لم يركب موجة “الترند”، فإنه سيجد نفسه خارج المنظومة، على الرصيف يكتب بلا قارئ، يتأمل نصوصه بحسرة وهي تموت ببطء.
ولا يقتصر الصراع بين الجيد والرديء، بل أيضاً بين البطيء والسريع، والمثقف بطبعه بطيء، يفكر ويمحّص ويراجع، ثم يكتب نصاً ربما لا يصلح وفق خوارزميات وسائل التواصل والإعلام الجديد. فالنص المتزن الطويل لن يلقى رواجاً واهتماماً أمام نقل الرائج، مهما كان منحدراً أو سخيفاً. لا فرق، فالجميع يعمل عند الخوارزميات والكلمات المفتاحية المثيرة.
والصحافة في خطر كبير إن فتحت أبوابها تحت وهم البقاء في السوق، تعرض ذاتها للبيع إن لم تفرق بين المثقف والمؤثر، إن لم تقدّم المثقف باعتباره ليس حامل معلومة فحسب، بل حارس قيم.
ربما لن يكون خبيراً أو تقنياً أو متخصصاً لغوياً، لكنه بالضرورة قادر على رؤية الصورة الواسعة، في السياسة والاقتصاد والثقافة.
إنه، بتعبير إدوارد سعيد، “المعارض المبدئي”، لا الموظف في بلاط السلطة، ولا الدمية في يد الجمهور.
ويراه الفيلسوف الطيب تيزيني بأنه محرك التغيير السياسي والاجتماعي، ويعرفه المفكر العربي عزمي بشارة على أنه فاعل تاريخي يملك رأياً نقدياً في المجال العام، في حين يرى الدكتور برهان غليون أن المثقف يجب أن يكون متمرداً، لا يكتفي بالتشخيص، بل يسعى إلى تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي.
وإذا ما أسقطنا هذه التعريفات على واقعنا اليوم، سنكتشف حجم الفجوة بين مؤثرٍ يلهث خلف رضى الجمهور، وبين المثقف الحقيقي الذي لا يساوم على الأخلاق والمبادئ.
الخطر هنا ليس في هذه التكنولوجيا، بل في تهديدها لصيغة المثقف المستقلة. فالخوارزميات بطبعها لا تؤمن بالتأمل، بل بالحركة، ولا تفهم السياق بل التكرار، ولا تكافئ من يكتب الحقيقة بقدر ما تكافئ من يكتب بإثارة وسرعة.
لا تندهش، صديقي، إن برّأت التكنولوجيا كاتباً معروفاً يتسوّل تفاعلاً، أو حوّل صفحته إلى ما يشبه نادياً للمراهقين، أو رأيته يستغل الأزمات السياسية والاجتماعية والطائفية في سبيل صعود نجمه على حساب المبادئ.
فالخطر هنا ليس في هذه التكنولوجيا، بل في تهديدها لصيغة المثقف المستقلة. فالخوارزميات بطبعها لا تؤمن بالتأمل، بل بالحركة، ولا تفهم السياق بل التكرار، ولا تكافئ من يكتب الحقيقة بقدر ما تكافئ من يكتب بإثارة وسرعة.
نعم، صديقي القارئ، ستنعت مقدمتي بالسوداوية، والبكاء على الأطلال، لكن لعل المسألة ليست كذلك تماماً. فالعالم يضج بالمتغيرات والتناقضات، وعلى المؤسسات الصحفية أن تواكب السرعة والتكنولوجيا بأدوات مهنية وتقنية وخبرات علمية وأخلاقية، كما على الصحفي والمثقف أن يعيد تشكيل حضوره، وأن يخلق لغته الخاصة، وأن يستمر بالكتابة والإنتاج الفكري، مؤمناً بتأثير ما يكتبه ولو بعد حين، ومتغافلاً عن شهوة الشهرة وزينتها.
ربما لن يكون نجماً، وربما لن يكون ضيفاً تلفزيونياً أو في إحدى حلقات البودكاست، إلا أنه سيُقرأ حين تهدأ العاصفة، وحين تبرد رغبة السرعة، ويعود الناس ليسألوا: أين كان العقل حين ساد كل ذلك الجنون؟

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى