
في لحظة سوريالية فاصلة، يحطّ مبعوث البيت الأبيض إلى العراق، مارك سافايا، رحاله في بغداد، متقلّداً منصباً يشبه وظيفة “المندوب السامي” التي عرفناها أيام زمان، والهدف إصلاح أحوال العراق، و”جعله عظيماً”، كما قال، وقد قوبل بيانه الرسمي الأول بكثير من ردّات الأفعال لدى القائمين على الشأن السياسي من وكلاء إيران وزعماء المليشيات الذين اعتادوا النوم على أفرشة من حرير مطمئنين، في ظلّ وهم أن “لا شيء يحدُث، ولا أحد يجيء” الذي عشعش في رؤوسهم أزيد من 20 عاماً، وها هم اليوم لا يعرفون ما عليهم فِعله كي يتجنّبوا ضربات سيّد البيت الأبيض التي عبّر عنها بيان سافايا، وربما يكون ملاذهم الأخير إيران التي قد تقلب لهم، هي الأخرى، ظهر المجن، بعد أن استخدمتهم عبيداً أذلّاء، متنكّرين لشعبهم ووطنهم، لكن مَن قال إنّهم عراقيون أصلاً؟
هكذا، يقطع سافايا عليهم أوهامهم، يصرخ في وجوههم: “لا مكان لجماعات مسلّحة تشتغل خارج سلطة الدولة، (…)، نريد عراقاً خالياً من التدخل الخارجي الخبيث، بما فيه تدخّل إيران ووكلائها”، يسمعون الإنذار الأميركي، ويصمتون! وقد أثارهم أمر آخر في بيان سافايا، هو تزكيته حكومة محمد شياع السوداني التي قال إنّها “أخذت على مدى الثلاث سنين الماضية خطوات مهمّة، حتى توجّه البلد بالطريق الصحيح (…)، والعراق باشر يرجع دولةً ذات سيادة، (…) لكنّ الشغل بعد ما كمل، والعراق لا يزال يحتاج دعماً مستمرّاً حتى يبقى على هذا الطريق”! وهذا يعني أن وكلاء إيران وزعماء مليشياتها سيصبحون خارج اللعبة، أدرك بعضهم هذا، وشرعوا في الفرار من السفينة، قبل أن تغرق، لكنهم وجدوا أنفسهم أسرى “متلازمة التكيّف مع الصدمة” التي يقول العلماء إنها تشكل ضغوطاً حادّة تشيع اضطراباً في توجهاتهم، وقد تدفعهم إلى اتباع سلوكيات متهوّرة، واتخاذ قرارات صادمة. وبالفعل، هذا الذي حدث، إذ إنّهم لم يتمالكوا أعصابهم، وعمدوا إلى إطلاق تغريدات وتصريحات معربدة، لكنّها يائسة، ومنهم من أخذ يغازل سافايا ملمّحاً إلى استعداده للقاء به، والحديث معه!
لا سبيل أمامنا في العراق لمواجهة مباشرة مع واشنطن في ظلّ المعادلة القائمة
نقرأ في البيان أيضاً إشارة ملغمة تركز على “ضرورة التعاون بين السلطات الاتحادية والإقليمية”، وتفصح عن دعم حكومة أربيل التي كثيراً ما حصلت بينها وبين الحكومة المركزية خلافات، بعضها لا يزال من دون حل، وهنا لا نجد مصادفة عفوية، ولا غرابة، في توقيت إعلان رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني مع قدوم مبعوث واشنطن “استعداد حزبه لاستعادة محافظة كركوك، وكذلك مخمور وزمار وسنجار وخانقين، إلى حضن الوطن، وعدم جواز بقاء أي جزءٍ من هذه الأرض محتلاً”، وربما وجد بارزاني في تحرّك واشنطن الجديد فرصة للحصول على دعم أميركي ودولي لمطلبه الذي قد يكون، لو حدث، مقدّمة لتقسيم العراق وشرذمته.
وبشيء من مكر التاريخ أيضاً، كما في الإشارة السابقة، يرسم لنا سافايا طريقاً للانخراط في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تعمل على إنضاجه الولايات المتحدة وإسرائيل، ويفضي إلى التطبيع والصلح مع الدولة العبرية. ولكي يوصل الفكرة التي هي في قلب الشاعر يحاول أن يستثير غرورنا بتذكيرنا أنّ بلدنا “بلد محوري في منطقة الشرق الأوسط، ويجب أن يأخذ دوره الطبيعي في تعزيز السلام والأمن والاستقرار الإقليمي من دون العودة إلى ممارسات الماضي، أو تبنّي سياسات تعيق الوحدة والتقدّم”. هنا ندرك أنّنا، في آخر المطاف، سنكون مأخوذين عنوةً إلى مسيرة التطبيع مع إسرائيل، وهو المطلوب منا أميركياً، وهو مآلٌ رديء في كل الأحوال.
سنكون مأخوذين عنوةً إلى مسيرة التطبيع مع إسرائيل، وهو المطلوب منا أميركياً، وهو مآلٌ رديء في كل الأحوال
تلك هي قراءتنا وصفة مبعوث واشنطن، التي تكشف، من دون مواربة، أنّ القبضة الأميركية سوف تبقى مطبقة على العراق عبر استراتيجية ذكية تختفي وراء نعومة مقصودة، وبراءة مفتعلة، ولطف نحسبه مبرمجاً. وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان!
بعد هذا، ما العمل إذن؟
ندرك أن لا سبيل أمامنا في العراق لمواجهة مباشرة مع واشنطن في ظلّ المعادلة القائمة حالياً، كما لا سبيل لقيام حركة شعبية منظّمة قادرة على إطلاق ديناميكيات تُحدث تغييراً فعلياً، وذلك كلّه يجعل الركون إلى “الوصفة” الأميركية، مهما كان الرأي فيها، ثم البحث من خلالها عن طقوس ترمّم بعض الخراب، وتصلح بعض ما أفسدته السنوات العجاف الماضية أمراً لا بدّ منه، مع إبقاء شرط التوجّس قائماً، وإبداء الخوف دائماً من كل ما يحيط بالموضوع أميركياً وإسرائيلياً، ومُكرهٌ أخاك لا بطل!
المصدر: العربي الجديد






