
في تصريح صادم بثّته القناة 12 العبرية، عبّر الجنرال إسحاق بريك – أحد أبرز المحللين العسكريين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية – عن دهشة وذهول لا تخطئهما الأذن، وهو يصف ما يجري في غزة بعد إعلان وقف الحرب.
فالرجل الذي كان من بين من بشّروا بنهاية حماس ودفنها تحت الركام، وجد نفسه اليوم أمام مشهد يعجز عن تفسيره:
“ما الذي يجعل حماس تعود إلى السيطرة الميدانية بكل تلك السرعة والحسم؟ ومن منحها الثقة لتعيد نشر سبعة آلاف شرطي مسلح في أقل من 24 ساعة من إعلان وقف الحرب وهي على بعد مئات الأمتار فقط من جيش الدفاع؟”
هكذا تساءل بريك، قبل أن يقرّ – بدهشة لا تخلو من انكسار – بأن ما يجري على الأرض لا يشبه أياً من التوقعات التي بُنيت عليها الحرب، وأن كل المعطيات تشير إلى أن حماس تمسك بزمام الميدان مرة أخرى، وكأنها لم تُهزم أصلاً.
* الدهشة العسكرية: حين تفشل الحسابات
كلام بريك يعكس أولاً حالة صدمة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. فكيف يمكن لحركةٍ كان يُقال إنها “انتهت”، أن تعود بهذه السرعة والتنظيم؟
أن تنشر شرطة مدنية مسلحة، وتعيد تشغيل البلديات والمستشفيات، وتؤمّن الكهرباء والمياه والنظافة العامة، وتعيد المصرف المركزي في دير البلح إلى العمل، وتفرض رقابة اقتصادية صارمة على الأسواق لمنع الاحتكار والمضاربة!
هذه ليست مشاهد “فوضى ما بعد الحرب”، بل مشاهد نظامٍ يستعيد وظائف الدولة من تحت الرماد.
لقد أعادت حماس، خلال أيام قليلة، إحياء مؤسساتها المدنية كما لو أنها كانت في حالة سبات مؤقت، لا في قلب معركة إبادة استمرت عامين.
* إدارة الحياة… لا البقاء فقط
ما يصفه بريك بدقة مذهلة، هو أن حماس لم تنجُ فحسب، بل استعادت دورها كـ سلطة أمر واقع معترف بها ضمناً من الجميع – بمن فيهم الأمم المتحدة والأونروا، اللتان تتعاونان معها في توزيع المساعدات وتأمين الطرقات.
فحين تطلب الحركة من المجتمع الدولي “تطبيق الأحكام الصادرة من محكمة الجنايات الدولية ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين”، فإنها لا تتحدث من موقع المظلومية، بل من موقع الفاعل السياسي والقانوني.
بريك هنا لا يتحدث عن منظمة “محظورة” أو “منهارة”، بل عن كيان يمتلك مشروعية ميدانية وشعبية وتنظيمية، يصعب على أي بديل مفترض – كالسلطة الفلسطينية أو الإدارة المؤقتة التي بشرت بها واشنطن – أن ينافسها فيها.
* التفويض الغامض
أخطر ما في كلام بريك تلك الجملة التي ختم بها تحليله:
“ما يجري الآن على الميدان ليس له إلا تفسير واحد: حماس لها تفويض سري لا يعلمه إلا اثنان، ترامب وأردوغان.”
الجملة، رغم ما فيها من غموض، تكشف عن شعور داخل الدوائر الإسرائيلية بأن هناك تفاهمات غير معلنة، ربما برعاية أمريكية – تركية، تتيح لحماس إدارة “اليوم التالي” في غزة ضمن ترتيبات أوسع للمرحلة المقبلة.
إنها إشارة إلى أن الواقع فرض نفسه: لا استقرار في غزة من دون حماس، ولا إعادة إعمار ولا ضبط أمني ولا توازن سياسي دون إشراكها في المعادلة.
* انقلاب في المعادلة
بهذا المعنى، يقرّ بريك من حيث لا يدري أن إسرائيل لم تنتصر عسكرياً، بل منحت حماس شرعية ميدانية غير مسبوقة.
فاليوم الذي وُعد به الإسرائيليون بأنه “يوم ما بعد حماس”، بدأ فعلاً… لكنه بدأ على طريقة حماس.
من ظنّ أنه سيصادر سلاحها، وجدها تعود إلى الشوارع لتنظم الحياة وتوزع الخبز والماء وتؤمّن الأسواق.
ومن وعد بإقصائها عن الحكم، وجدها تحكم من جديد، ولكن بوعيٍ وتجربةٍ مضاعفين.
* غزة: المعجزة التي أربكت العقول
ما يلمّح إليه بريك بوضوح، هو أن غزة التي أرادوا دفنها، قامت من تحت الركام لتعلن ميلادها الجديد.
فهي لم تنتظر مؤتمرات الإعمار ولا تفاهمات الإذلال، بل بدأت تعيد بناء نفسها بنفسها، وتفرض على العالم التعامل معها كسلطة ناضجة ومتماسكة.
وهكذا يتحول “اليوم التالي للحرب” إلى اليوم الأول لمرحلة جديدة، تتصدر فيها المقاومة المشهد لا بوصفها بندقية فقط، بل منظومة حكم وصمود ومعنى.
* خلاصة القول
اعتراف الجنرال بريك ليس مجرد تحليل عسكري، بل وثيقة سياسية من قلب المؤسسة الإسرائيلية، تُقرّ – من دون قصد – بأن حماس ربحت معركة البقاء، وربما ما هو أعمق من ذلك:
ربحت معركة الوعي والسيادة.
من كانوا ينتظرون جنازتها، يراقبون اليوم عودتها المنظمة إلى الميدان،
ومن ظنّ أن الحرب دفنتها، يكتشف أنها – كطائر الفينيق – لا تموت، بل تنهض من رمادها أكثر قوةً وشرعيةً وتأثيراً.
المصدر: القناة 12 العبرية/ صفحة الدكتور مخلص الصيادي