
تشهد مدينة قابس (في الساحل الجنوبي 500 كلم من العاصمة تونس) احتجاجاتٍ شعبيةً للأسبوع الثاني، تخللتها مواجهات مع رجال الأمن، ما استدعى تدخّل الجيش حفظاً على الممتلكات العامة، ولإعادة بسط الأمن بعد توقيفات طاولت عشرات المواطنين. تأتي هذه الاحتجاجات على خلفية حوادث اختناق متكرّرة شهدتها إحدى المدارس القريبة من المجمّع الكيمياوي وسكّان بعض الأحياء المجاورة للمجمّع، وهي اختناقات حادّة ناجمة من تسرّب غازات منبعثة من عشرات وحدات الإنتاج فيه، وهي أكثر من 50 وحدة حالياً، وكان ضحيتها عشرات الأطفال، ما استدعى نقل بعضهم إلى مستشفيات العاصمة للعلاج. والمجمّع منطقة صناعية كبرى ممتدّة في آلاف الهكتارات.
تعود نشأة المجمّع الكيمياوي (الضخم) إلى بداية ستينيّات القرن الفارط، حين افتُتحتْ أولى أعمال التهيئة والتشييد، غير أن دخوله النشاط الفعلي كان سنة 1969 من خلال تحويل مادة الفوسفات المُستخرَجة من الحوض المنجمي بقفصة (غرب) أسمدةً وموادَّ كيمياويةً مختلفةً، قبل أن تتوسّع أنشطته لاحقاً لتشمل إنتاج موادَّ كيمياوية متعدّدة. … وليست هذه الاحتجاجات الأولى التي عرفتها المدينة تعبيراً عن غضبها تجاه ما تعدّه موتاً بطيئاً لسكّانها، غير أنها الأكثر حدّة والأطول مدّة. فمنذ الثورة، برزت فعّالياتٌ مدنيةٌ وجمعويةٌ نشيطةٌ عبّأت الناس (الشباب خصوصاً) بشأن قضية نبيلة أجمع عليها السكّان وهي إيقاف سلسلة طويلة من “الجرائم البيئية الخطرة” التي ارتُكبت منذ أكثر من ستّة عقود، ويكتشف سكّان المدينة تدريجياً أنها تحوّلت كارثةً بيئيةً لا تطاق. وكان خبراء بمَن فيهم الأجانب الذين أشرفوا على تأسيس هذا المُجمّع، قد أبدوا تحفّظاتٍ مُبكّراً على آثاره المدمّرة، ولكنّ موقفي السلطات والأهالي ربما كانا مغايرَين، إذ كانت السلطات وقتها تبحث عن تعزيز نسيجها الاقتصادي مستغلّةً ثروات الفوسفات المُستخرَجة من جهة قفصة، التي لا تبعد إلا نحو 150 كيلومتراً. وكان اقتصاد البلاد، التي خرجت لتوّها من حقبة الاستعمار، في حاجة إلى التصدير والعملة الصعبة، فضلاً عن إبداء شيء من العدالة المناطقية حتى لا تستأثر العاصمة والساحل (منطقة النخبة الحاكمة) بمقدرات التنمية. أمّا المتساكنون فإن تقديرهم لعواقب التلوّث الوخيمة كان آنذاك (وكما أشرنا) غير صائب، خصوصاً في ظلّ افتقاد الدراسات العلمية أو التقنية الدقيقة، وغياب الخبرة في المجال البيئي، فضلاً عن تكتّم من كان له علم بتلك المآلات، وهي عوامل قد دفعتهم إلى احتضان المشروع، وقد كان واعداً بالشغل والرخاء والتنمية.
تحوّلت أحلام مدينة قابس كوابيسَ مرعبةً، واعتبرت بعض النخب مدينتَهم منطقةً منكوبةً
لا أحد ينكر أن القطب الكيمياوي الضخم في قابس استطاع أن يشغّل أياديَ عاملةً وفيرةً، سواء غير متخصّصة أو من كفاءات، خصوصاً بعد أن نشأت عديد من مؤسّسات التعليم العالي تخرّج فيها مهندسون متخصّصون في الكيمياويات وغيرها من المسالك الهندسية ذات الصلة. غير أن مطلب العدالة البيئية بعد أكثر من نصف قرن غدا مطلباً ملحّاً، ولربّما لم يحظَ بانتباه عشرية الانتقال الديمقراطي رغم أنه كانت بيئةً حاضنةً لبروز هذا الشكل من الاحتجاج الذي رعته مئات الجمعيات، وسهرت لجعله قضيةَ رأي عام تستحقّ النضال. عديد من نشطاء هذه الحركات البيئية هم من أجيال مخضرمة، فبعضهم انضمّ إلى الجمعيات البيئية من خلفيات حقوقية بُعيد الثورة، وقد كانوا سابقاً نشطاء في رابطة حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحتى من بعض الأحزاب، غير أنهم آثروا الانضمام في عرض عشرية الانتقال الديمقراطية إلى “النضال البيئي” لأسباب عديدة، لعلّ أهمها خيبة أملهم في النضال السياسي، أمّا بعضهم الآخر فمن أجيال ما بعد الثورة، أي أدركوا الثورة أطفالاً، ويستحضرون حلقاتها حلماً غائماً مرّ من دون متعة.
تحوّلت أحلام مدينة قابس كوابيسَ مرعبةً، ولم تستطع مواطن الشغل التي أحدثتها الصناعات الكيمياوية أن تمنع وقوع الكارثة حتى ذهب بعض من نخبها إلى اعتبار مدينتهم منطقةً منكوبةً، ويقدّمون ثلاث حجج ليس من المهم تأكيدها علمياً، ولكنّها ثابتة وقارّة في تصوّرات الناس ومدركهم، وهي التي تحفّز الفوران الاجتماعي الجاري حالياً. أولى الحجج هي اضمحلال الواحة البحرية الوحيدة في العالم التي كانت قابس تحتضنها، كما يؤكّد ذلك متخصّصو الجغرافيا. كانت قابس منذ القديم (كما ذهب إلى ذلك الرحّالة العرب مثل التيجاني وابن بطّوطة وغيرهما) المدينة الوحيدة التي تجمع الواحة بالبحر، حيث تتكثّف في مشهد بديع غراسات واسعة من النخيل والرمّان والأشجار المثمرة عموماً، فضلاً عن الزراعات المروية الأخرى. غير أن هذا الاستثناء البيئي النادر والمتفرّد اضمحلّ تدرجياً خلال العقود الستّة المنقضية، وتحوّلت المدينة مكبّاً عملاقاً للنفايات الصناعية والكيمياوية. أمّا الأمر الثاني الذي يستند إليه سكاّن قابس فهو تصحّر البحر وقد كان مصدراً لثروات سمكية هائلة عاش منها أجدادهم. يُلقي المجمّع الكيمياوي ما يناهز عشرة آلاف طن (يرى بعضهم أنها أكثر من ذلك بكثير) من مادة الفوسفوجيب. جبالٌ كاملةٌ من نفايات خطرة تدمّر المنظومة البحرية والبيئية عموماً. كان المرفأ البحري لقابس إلى حدود عقود غير بعيدة يحتلّ مرتبةً متقدّمةً في صيد الثروات السمكية و توزيعها، أمّا الآن فإنه لا يكاد يُذكَر؛ لقد أفسد التلوث ذلك التوازن البيئي كلّه، وثرواته.
ستظلّ احتجاجات قابس صرخةً في وجه دولةٍ فشلت في مصالحة الصناعة مع البيئة
ما يثير غضب السكّان انشتار أمراض خطيرة في صدارتها السرطان، وسواء كان هذا مؤكّداً، كما تقول الجمعيات المدنية المنادية بالعدالة البيئية وإيقاف هذه التجاوزات الخطرة، أو مبالغاً فيه، فإن الناس يشعرون أنهم مهدّدون أكثر من غيرهم بهذه الأمراض الخطرة نتيجة هذا المجمّع، خصوصاً في ظلّ غياب بنية صحّية تحتية قادرة على معالجة المرضى.
ينقم الناس على هذا المجمع الكيمياوي الذي يقولون إنه الهدية المسمومة التي منحتها لهم دولة الاستقلال. يصرخون: “لو فكّكوا هذه الآلات القاتلة”، و”لو خيرتمونا بين البطالة والعيش في تلك الواحة التي غدت متخيّلة، لفضّلنا الحلّ الأول على هذه الصناعات التي تقتلنا”… لا تبدو الحلول سهلةً. ومهما قلبنا الخيارات المتاحة فسنجد أن تكلفتها باهظةً، إذ كيف يمكن مصالحة المدينة، والجهة عموماً مع هذه المجمّع؟… أسئلة لا تزال معلّقةً ولا تشكّل الإجابات عنها، مهما كانت دقيقةً أو غريبةً حالمةً، سوى وعود. يستحضر بعضهم تجربة المغرب التي استطاعت تدوير نفايات صناعة الفوسفات، ولكن حتى هذا الحلّ يحتاج إلى قرار سياسي شجاع، فضلاً عن إمكانات مادية كبيرة.
لا يمكن أن تتكرّر انتفاضة حوض المنجمي التي شهدتها مدينة قفصة سنة 2008 (قبل الثورة بعامَين) في قابس، لأسباب عديدة، لعلّ أهمها ضعف الحزام النقابي الذي احتض الحوض المنجمي وغاب تقريباً من احتجاج مدينة قابس، فضلاً عن غياب زعامات منعكسة بينها الاجتماعية التقليدية (قبائل وعروش). يضاف إلى ذلك عودة المعالجة الأمنية في مناخات شعبوية تجعل الاحتجاج امتداداً للمؤامرة والبلاد مجنّدة في حرب تحرير وطني، كما يكرّر الرئيس قيس سعيّد. سيظلّ هذا الاحتجاج صرخةً في وجه دولة فشلت فشلاً ذريعاً في مصالحة الصناعة مع البيئة. ما يجري حالياً هو “ربيع عربي” مرّ بسرعة، ولكن ظلّ صداه يتردّد لدى شباب ما زال مشدوداً إلى أحلامه ولو كانت صغيرة، ولكن ما أكبرها؛ أنفاس حرّة بلا دخان قاتل!
المصدر: العربي الجديد