رؤية استشرافية في مستقبل اتحاد الكتَّاب العرب ودوره في المشهد الثقافي

فاطمة عبود

بالنظر إلى التحوُّلات التي يشهدها اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا تبرز الحاجة إلى قراءةٍ فكريةٍ هادئة تستشرف مستقبل هذه المؤسسة الثقافية، وتعيد تأطير دورها ضمن السياق التاريخي والاجتماعي الراهن.

فليس كافياً أن نتحدَّث عن قرارات إدارية تتعلَّق بإعادة عضوية كتَّاب أو فصل آخرين، بل الأجدر أن نقرأ هذا الحدث ضمن سيرورة التحوُّل العميق الذي تمرُّ به الثقافة السورية منذ عقدٍ ونصف.

ونتساءل ما الذي يعنيه أن يستعيد اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا نشاطه بعد سنواتٍ من الجمود والتبعية؟ وما هي الأدوار الممكنة له في ظلِّ التغيرات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي تعيشها سوريا اليوم؟

إنَّ الرؤية الاستشرافية لدور اتحاد الكتَّاب تنطلق من ضرورة تجاوز نموذج المؤسسة التي كانت صوتاً للسلطة وانعكاساً لهيمنتها إلى مؤسسةٍ تعبِّر عن صوت المجتمع وآرائه، فاتحاد الكتَّاب اليوم أمام فرصة جديدة لإعادة تعريف نفسه بوصفه حارساً للقيم الثقافية التي تنطوي عليها بنية المجتمع السوري الذهنية بعيداً عن الولاءات السياسية، ذلك لأنَّنا بحاجة إلى كيانٍ حيٍّ يواكب التحوُّلات الفكرية والأدبية التي يعيشها السوريون في داخل سوريا وفي الشتات.

إنَّ التحدي الأكبر أمام الاتحاد هو الانتقال من الإدارة الثقافية إلى القيادة الثقافية، أي من البيروقراطية المقيتة التي كبَّلت دوره لسنوات طويلة إلى الإبداع الحرِّ الذي يصوغ وعي المجتمع، ويعيد للثقافة دورها في بناء الإنسان والمستقبل..

هذه الرؤية تقتضي إعادة النظر في فلسفة العمل الثقافي ذاته، بحيث يصبح الاتحاد مساحةً للنقاش المفتوح، وحاضنةً للتنوُّع الفكري الذي يتيح تفاعلاً حراً بين مختلف الاتجاهات الأدبية والفكرية، بما يعيد للثقافة السورية قدرتها على التعبير عن الإنسان وقضاياه في أعمق تجلياتها.

فالثقافة، في بعدها الحقيقي، هي فعل تفاعلٍ اجتماعي وحرية تفكير، وليست سلطة فوقية تمنح الشرعية أو تنزعها، ومن هنا يمكن القول إنَّ التحدي الأكبر أمام الاتحاد هو الانتقال من الإدارة الثقافية إلى القيادة الثقافية، أي من البيروقراطية المقيتة التي كبَّلت دوره لسنوات طويلة إلى الإبداع الحرِّ الذي يصوغ وعي المجتمع، ويعيد للثقافة دورها في بناء الإنسان والمستقبل.

يكشف المشهد الأدبي السوري بعد الثورة عن تعدديةٍ في الأصوات والتجارب، فقد أنتجت سنوات الحرب بما انطوت عليه من تجارب جديدة للسوريين، خاصة في المنفى، جيلاً جديداً من الكتَّاب الذين لم يتلقَّوا اعترافاً مؤسساتياً، لكنَّهم فرضوا حضورهم عبر منصاتٍ رقمية ووسائل نشرٍ بديلة.

هؤلاء الكتَّاب يمثِّلون طاقةً حيوية ينبغي للاتحاد أن يحتضنها بدلاً من تهميشها؛ لأنَّهم يعبِّرون عن وعي السوريين الجديد ورؤاهم المختلفة لقضايا المجتمع السوري.

إنَّ مهمة الاتحاد، وهي واحدة من مهماته الكثيرة، ربط الداخل السوري بالمنفى عبر شبكات تواصلٍ ثقافيةٍ مرنة، تكسر الحواجز الجغرافية والسياسية، وتعيد إنتاج الفضاء الثقافي السوري، إذ لا يمكن لأيِّ مؤسسة ثقافية أن تدَّعي تمثيل الأدب السوري إذا لم تنفتح على هذه التعددية؛ لأنَّ الاعتراف بالتنوُّع هو الشرط الأول لنهضةٍ ثقافيةٍ حقيقية تعيد للكتابة دورها بوصفها رابطاً بين التجربة الإنسانية الفردية والوعي الجماعي للأمة.

لقد عانى اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا خلال سنوات حكم النظام البائد من إرثٍ ثقيلٍ من فقدان الثقة بين مؤسسات الدولة المختلفة وبين المواطنين، وكذلك كان اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا، فقد تحوَّل على مدى عقودٍ طويلة إلى جهازٍ شبه رسمي، يقصي المختلف ويكافئ المطيع.

لذلك فإنَّ أيَّ محاولة لتجديد دوره تقتضي مواجهة هذا الماضي، وإعادة النظر في بنية الاتحاد الفكرية وآلياته التنظيمية، للتأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ تقوم على المساءلة والشفافية واستقلال القرار الثقافي. المطلوب اليوم أن يمارس الاتحاد نقداً ذاتياً مؤسسياً، يراجع فيه علاقته السابقة بالسلطة، وبالكتَّاب، وبالخطاب العام الذي أسهم في إنتاج ثقافة الخضوع. هذا النقد سيكون وسيلة لبناء شرعيةٍ جديدة قائمة على الصدق والشفافية والمساءلة.

كذلك، يبدو أنَّ الحاجة ماسة، في هذه المرحلة، لإعادة تعريف دور الكتابة في مجتمعٍ جرَّب كلَّ أشكال القهر، ولا بدَّ من إعادة بناء ثقافة تعبِّر عن الحقيقة المأساوية التي عاشها المجتمع السوري وعايشها، وبذلك يستطيع اتحاد الكتَّاب أن يؤدِّي دوره المحوري في توثيق ذاكرة السنوات الماضية، بوصفه منصة لإعادة تأويل التجربة الإنسانية السورية بأدوات الفن والأدب.

فالكتابة هي مساءلة للحدث، وهي القادرة على تحويل المأساة إلى وعي بالمأساة، لذلك ينبغي أن يحتضن الاتحاد مشاريع بحثٍ وتوثيقٍ ودراساتٍ تُعنى بالأدب السوري المعاصر بوصفه مرآةً لتحوُّلات المجتمع، وأن يشجِّع التجريب والتجديد في الأشكال السردية والشعرية التي نشأت من رحم المعاناة.

الاتحاد، في صورته الممكنة، مطالبٌ بأن يستعيدَ وظيفته الأصلية، وأن يعودَ إلى جوهر تأسيسِه؛ بيتاً للكتَّاب، ومنبراً للأفكار، ومجالاً رحباً للحوار والتفاعل الإبداعي..

إنَّ العالم الثقافي لم يعد قائماً على الهرمية، بل على الشبكات، وأصبح الكتَّاب يصنعون فضاءهم بأنفسهم عبر العالم الرقمي، وفي هذا السياق، ينبغي أن يتحوَّل الاتحاد من مركزٍ سلطوي إلى شبكة تفاعلية تنسِّق بين المبادرات الثقافية المستقلِّة، وتوفر لها الدعم الأدبي واللوجستي، حيث يمكن للاتحاد أن يلعب دور المنسِّق الثقافي بدلاً من الموجّه الثقافي.

فمستقبل اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا مرهون بقدرته على إعادة بناء الثقة بين الثقافة والمجتمع، والتحدِّي الحقيقي يكمن في إعادة الاعتبار للكلمة بوصفها سلطةً أخلاقية، وفي تأسيس بيئةٍ تحترم الاختلاف والتنوُّع، فحين يتحوَّل الاتحاد إلى مرآةٍ لتطلعات المجتمع يصبح أداةً للنهضة الفكرية، ومساحةً يتفاعل فيها الوعي الجمعي مع الأسئلة الكبرى للوجود والحرية والعدالة.

إنَّ الاتحاد، في صورته الممكنة، مطالبٌ بأن يستعيدَ وظيفته الأصلية، وأن يعودَ إلى جوهر تأسيسِه؛ بيتاً للكتَّاب، ومنبراً للأفكار، ومجالاً رحباً للحوار والتفاعل الإبداعي، غير أنَّ تحقيقَ هذه الغاية لا يمكن أن يتمَّ من داخل البنى القديمة التي كبَّلت العملَ الثقافي، فمتى ما تحرَّرت الثقافة من هيمنة الأيديولوجيا، سيستعيد الكاتب دوره الطبيعي بوصفه ضمير المجتمع وناقدَ واقعه ومحرِّك أسئلته الكبرى.

وعندها فقط يمكن للاتحاد أن يستعيد مكانته كضميرٍ ثقافيٍّ للأمة، وكمساحةٍ تُعيد إلى الكلمة رسالتها الأخلاقية ودورها التنويري في تشكيل الوعي وبناء الأمل.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى