من الثورة إلى الفوضى: الإنسان السوري بين النبل والاستغلال

أمين صعب

حين انطلقت الثورة السورية عام 2011، كانت أشبه بصرخة ضمير جماعي خرجت من أعماق القهر الطويل. لم تكن مجرّد احتجاج سياسي، بل كانت لحظة نادرة من النقاء الإنساني، حين تلاقت أصوات الناس على مطالب بسيطة وعميقة: الحرية، الكرامة، والعدالة.

في تلك الأيام الأولى، أظهر السوريون أجمل ما فيهم: شجاعة الموقف، التضامن الشعبي، الإيثار، والتكافل. كان الجار يطعم جاره، والطبيب يداوي مجانًا، والمثقّف يكتب بإخلاص لا لمصلحة بل لإيقاظ الضمير. بدت البلاد، رغم الدم، أكثر حياةً وإنسانية من أي وقت مضى. لقد وُلد مجتمع جديد مؤقتًا من رحم الألم، مجتمع يبحث عن نفسه وسط الخراب.

ومع اشتداد الصراع، قدّم السوريون من مختلف المدن والطبقات تضحياتٍ هائلة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلًا لها. ملايين المهجّرين واللاجئين، آلاف الشهداء والمعتقلين، أمهاتٌ فقدن أبناءهن، وشبابٌ حلموا بوطنٍ عادل فدفعوا حياتهم ثمنًا. تلك التضحيات لم تكن عبثًا، بل كانت ثمنًا باهظًا لمحاولة استعادة الكرامة الإنسانية التي سلبها الاستبداد لعقود. فقد كتب السوريون بدمائهم معنى الإرادة، وأثبتوا أن الحرية، مهما كانت مؤلمة، تبقى أغلى من الخوف.

لكن مع مرور السنوات، ومع تفكّك مؤسسات الدولة وغياب النظام العام، تبدّل المشهد جذريًا. ما إن انهارت البنى التي كانت – رغم استبدادها – تنظّم الحياة العامة، حتى طفت إلى السطح أعماق أخرى من المجتمع كانت مكبوتة ومشوّهة. بدأ يظهر ما يمكن تسميته بـ الوجه الآخر للإنسان السوري: الفوضى، الفساد، الأنانية، واستغلال الضعف العام لمصالح خاصة.

في مرحلة ما بعد النظام، برزت طبقة جديدة — ليست ثورية بالمعنى القيمي، بل انتهازية. هذه الفئة لم تحمل همّ الحرية ولا حلم العدالة، بل رأت في انهيار الدولة فرصة للثراء والنفوذ. استغلت الثورة لتتصدر المشهد باسمها، واستغلت الفوضى لتحتكر المساعدات، وتتحكم بالناس، وتعيد إنتاج أدوات السيطرة القديمة بثوب جديد. فبينما قدّم البعض أرواحهم من أجل فكرة، حوّل آخرون تلك الفكرة إلى مشروع تجارة وسلطة.

لقد تحوّل شعار “الحرية” عند البعض إلى وسيلة تبرّر كل سلوك، حتى ولو كان ضدّ جوهر الثورة نفسها. هذه الطبقة الطفيلية، التي نمت في فراغ الدولة، ساهمت بوعي أو دون وعي في تشويه صورة الثورة نفسها. فهي استبدلت الاستبداد القديم باستبداد جديد، والفوضى بالقانون، والمصلحة الشخصية بالمصلحة العامة. ومعها، تراجعت القيم التي وُلدت في بدايات 2011 أمام طغيان البقاء والمكسب.

ومع ذلك، لا يمكن اختزال المشهد السوري بهذه الثنائية البسيطة بين الخير والشر. ما حدث هو انكشاف شامل لبنية المجتمع بعد عقود من القهر السياسي والتجهيل الممنهج. فالاستبداد الطويل حوّل الناس إلى ضحايا ومقلّدين في آنٍ معًا، وترك في النفوس عُقدًا لم تُعالج. وعندما انهار النظام، انهارت معه منظومة القيم المتخيلة التي كانت تردع السلوك الفردي ولو شكليًا.

فما بدا وكأنه “سقوط للنظام” كان في عمقه سقوطًا للنظام الأخلاقي والاجتماعي الذي فُرض قسرًا دون بديلٍ مدنيّ حقيقي. إنّ مأساة سوريا اليوم ليست فقط في دمار المدن، بل في تصدّع النسيج الإنساني. الحرية التي حُلِم بها لم تجد مؤسسات تحميها، ولا ثقافة تنظّمها، ولا نخبة مخلصة تديرها. وما بين نُبل الثورة وفوضى ما بعدها، خسر الناس ثقتهم بعضهم ببعض، وتحوّل الحلم الجماعي إلى شتات من المصالح والمشاعر المتناقضة.

وربما يمكن القول إنّ الثورة السورية لم تفشل في أهدافها، بل كشفت بصدق عمق الداء الذي عاشه المجتمع لعقود. فقد أظهرت أفضل ما في الناس في لحظة النور، وأسوأ ما فيهم في زمن الغياب.

ومع ذلك، فإنّ الأمل لا يزال ممكنًا، بل ضروريًا. فالتجارب الكبرى لا تُقاس بنتائجها الآنية، بل بما تزرعه من وعي جديد في الذاكرة الجماعية. وربما تكون هذه السنوات القاسية مرحلة مخاضٍ تاريخيّ يولد منها مشروع وطني جامع، يتجاوز الانقسامات والهويات الضيقة نحو هوية سورية مدنية حديثة.

إنّ إعادة بناء سوريا لن تبدأ بالإعمار الحجري، بل بإعادة إعمار الإنسان ذاته — في وعيه، وأخلاقه، وشعوره بالمسؤولية العامة. فالسوري الجديد الذي خرج من رماد الحرب، رغم جراحه، صار أكثر وعيًا بضرورة الدولة، وأكثر إدراكًا أن الحرية بلا نظام، والكرامة بلا عدالة، لا تبني وطنًا.

وهكذا، فإنّ سوريا الجديدة لن تكون استمرارًا للماضي، ولا تكرارًا لفوضى الحاضر، بل ولادةً ثالثة تقوم على عقدٍ اجتماعي جديد، يجمع بين الحرية والنظام، بين الذاكرة والأمل، وبين الإنسان والوطن. فمن رحم الألم والتضحيات، قد تُكتب البداية الحقيقية لسوريا التي تستحق الحياة.

دمشق في 20/10/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى