الصراع بين “قسد” وحكومة دمشق: ضبط للمفاهيم والتوقعات

إياد الجعفري

نجت سوريا في منتصف الأسبوع الفائت، من احتمال الانزلاق إلى معركة دامية جديدة، كان يمكن لها أن تشكّل جرحاً غائراً جديداً في العلاقات بين أطياف النسيج السوري، على غرار ما حدث في أحداث الساحل والسويداء. وكان يمكن للاشتباكات العنيفة التي دارت على أطراف حيي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، أن تتحول إلى “طعنة” جديدة في مجمل مسار العملية الانتقالية الجارية في سوريا.

وخلافاً للنَفَس التحريضي الصادر عن بعض مؤثري “السوشال ميديا”، امتلك صنّاع القرار في كلا الطرفين، درجة ملحوظة من العقلانية والاحتساب الدقيق للعواقب. وكانت تجربتَا الساحل والسويداء، الأليمتان، كفيلتين بعدم الانزلاق لتجربة ثالثة مماثلة، أو أبعد خطراً. أو هذا ما نأمله.

وفيما يتركز الاهتمام الآن على الحراك السياسي والدبلوماسي الجاري على هامش “الصراع” بين “قسد” والحكومة في دمشق، يتطلب الأمر تصويباً لعدد من المفاهيم والتوقعات السياسية. فما نعيشه في سوريا اليوم، هي مرحلة انتقالية في بيئة هشّة، تُعرف بـ”بيئات ما بعد الصراع”. والسلطة القائمة في دمشق، تحكم البلاد الآن، وفق ما يُعرف في الأدبيات المتخصصة بـ”ترتيبات الحكم المؤقت”. وفي ذلك نجد الكثير من الدراسات الأكاديمية، المستندة إلى تجارب الانتقال في بلدان شهدت صراعات أهلية أعقبت ثورات أو أزمات سياسية. نستند فيما يلي إلى إحداها. وهو تقرير صادر عن برنامج أبحاث التسويات السياسية في جامعة إدنبره، نهاية العام 2019.

أولى النقاط في ذاك التقرير، تلك الإشارة المهمة إلى هشاشة المرحلة الانتقالية. فهناك بلدان انهارت فيها ترتيبات الحكم الانتقالي كالسودان عام 2023، أو ظهر فيها صراع جديد كاليمن عام 2014. وهما نموذجان، نجد أن سوريا معرّضة بشدة اليوم، لتكرار أحدهما.

ويجب أن نتذكر، أن ترتيبات الحكم المؤقت، كالتي هي قائمة الآن في دمشق، تم إرساؤها أساساً لتمكين بلدٍ كان يحكمه نظام سلطوي، لتشكيل جسرٍ لتجاوز أزمة عنيفة، وبداية عهد جديد يحكمه نظام أكثر ديمقراطية، لا يفرّق بين مواطنيه ومكوناته. وهنا -الكلام موجه لأنصار السلطة في دمشق- فإن الانحراف عن هذا الفهم، يؤدي ببساطة إلى فشل الانتقال السياسي، والارتداد إلى حالة النزاع المسلح، أو شكل جديد منه.

وللقارعين على “طبول الحرب”، من “أبواق” الأطراف المتصارعة، نخبرهم إن فشل وقف إطلاق النار يمثّل المقتل الرئيس لأي عملية انتقالية. إذ يحدد المتخصصون في أدبيات الانتقال في بيئات ما بعد النزاع، أربعة مسارات للعملية الانتقالية. مسار سياسي، أبرز مكوناته، تشكيل الحكومة المؤقتة. ومسار أمني، أبرز مكوناته، وقف إطلاق النار، وإرساء آلية لنزع سلاح الميليشيات المسلحة وتسريح مقاتليها وإعادة إدماجهم، وإصلاح القطاع الأمني الحكومي. ومسار دستوري، أبرز مكوناته، إجراء إصلاحات قانونية ودستورية، من بينها، إرساء آليات لإجراء مشاورات عامة. فيما المسار الأخير، هو المسار الاقتصادي.

وكما نلحظ، فإن المسار الاقتصادي هو واحد من أربعة مسارات لا تنجح العملية الانتقالية من دون نجاح أحدها. لذا، فإن الأهمية الفائقة التي يخصصها منظّرون موالون للحكومة في دمشق تحديداً، للجانب الاقتصادي على حساب بقية المسارات، لا يخدم هدف نجاح العملية الانتقالية، التي يعني فشلها انتكاس سوريا إلى النزاع المسلح.

ولضبط توقعاتنا حيال كيفية سير العلاقة بين الأطراف المتنازعة في سوريا، علينا استيعاب حقيقة أنه من الطبيعي أن نشهد منافسة شرسة بين النخب السياسية العسكرية في كل مكوّن من مكونات العملية الانتقالية. أي أن الصراع الميداني -البارد- والسياسي الساخن، بين “قسد” والحكومة في دمشق، أمر طبيعي في بيئات ما بعد النزاع. لكن الخطير هنا، أن يتحوّل الصراع الميداني -البارد- إلى ساخن وشامل. وأن ينتكس النزاع من ميدان السياسة إلى ميدان الحرب بالمطلق. وهنا يشير المتخصصون إلى أهمية الدور الذي يلعبه أصحاب المصلحة الإقليميون والدوليون في رعاية عملية الانتقال السياسي وضبط الصراع بين النخب المحلية المتصارعة. وهذا ما قامت به الولايات المتحدة الأميركية، منتصف الأسبوع الفائت، حينما أرسلت مبعوثيها إلى دمشق، وضغطت على الطرفين للالتزام بوقف شامل لإطلاق النار.

وفيما يقرّ المتخصصون بحتمية المنافسة السياسية الشرسة بين النخب السياسية- العسكرية، بغية ضمان حصتها من موارد الدولة وضمان استمرار وجودها في الساحة السياسية وقدرتها على مواصلة التأثير في الأجندات السياسية للدولة راهناً ومستقبلاً، في الوقت نفسه، يحذّرون من خطر ضعف التزام هذه النخب (الأطراف)، بتعهداتها وتعاملها مع الانتقال السياسي تعاملاً شديد الحذر والحيطة بغية تحسين مواقفها التفاوضية مستقبلاً. وهذا ما تقوم به “قسد” في الوقت الراهن. وإن كانت قيادتها تعاملت بمسؤولية لمنع اتساع نطاق الاشتباك الميداني العنيف بحلب، منتصف الأسبوع الفائت، إلا أنها، منذ توقيع اتفاق 10 آذار مع الحكومة في دمشق، لم تتعامل بجدّية ملحوظة مع العملية الانتقالية، وكان من الجلّي أنها تراهن على الوقت، علّه يسعفها بتغيّر ما في موازين العلاقات مع قوى خارجية. تحديداً، على صعيد العلاقة بين الولايات المتحدة والحكومة في دمشق. وكانت أحداث السويداء، منتصف تموز الفائت، قد مدّت تمنّع “قسد” بزخم ملحوظ، لكنه كان قصير الأمد.

هذه الاستراتيجية من جانب “قسد”، تشكّل واحدة من الأسباب الشهيرة لانهيار محاولات الانتقال من النزاع إلى الاستقرار. وعلى الضفة الأخرى، فإن السلطة في دمشق، مدّت تمنّع “قسد” بـ”شرعية” على صعيد قاعدتها الجماهيرية، من خلال غياب عنصر “الشمولية” في المسار الدستوري (الإعلان الدستوري)، الذي صِيغ بمعزل عن قوى سياسية تمثّل مكوّنات رئيسة في النسيج السوري، أبرزها الأكراد.

في الختام، إن كنا نريد عدم الانتكاس إلى حالة الصراع المسلح المنفلت، يجب عدم تجاهل المفاهيم والتوقعات المستقاة من عشرات التجارب لدى بلدان أخرى، خرجت من فخ الصراع إلى الاستقرار والإعمار، أو لم تخرج. وعلينا أن “نعقلن” توقعاتنا، ونقلل من منسوب الانحياز لطرف محدد. وأن نتذكر جيداً، أننا أمام سلطات أمر واقع متصارعة. وأن مصلحتنا كسوريين، الدفع باتجاه حصر الصراع بالأدوات السياسية، والعمل على تخليق حراك سياسي مدني، يشكّل عامل لجم للنخب السياسية – العسكرية التي تتصدّر المشهد.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى