سوريا بين الداخل والخارج.. اصطفافات “ما بعد الأسد”

مالك داغستاني

ثمة فجوةٌ لا يمكن تجاهلها بين مواقف السوريين داخل البلاد والمزاج خارجها، فجوةٌ يمكن تفسيرها بالجغرافيا، وعلاقة الأمر بدرجة الاحتكاك اليومي بواقع سوريا ما بعد زوال الأسد، وطبعاً دون إهمال وزن الألم وعمق التجربة الشخصية.
المعارضون السوريون للأسد، وأنا أتحدث عن هؤلاء حصراً في كامل مادتي هنا، الذين عاشوا سنوات الانهيار، فكانوا شهوداً على دوّامة العنف، معظمهم دفعوا أثمانها من أمنهم ورزقهم وأحياناً من حياة أفراد عائلاتهم، تحوّلوا تدريجياً لرؤية الأمور وقياسها بميزانٍ مختلف تماماً عن السوريين الذي صاروا يتنفسون السياسة بحرّية تامّة من وراء الحدود.
الأخيرون، موالون ومعارضون للحكم الجديد، يحلمون اليوم بالتغيير من دون دفع كلفته، ونراهم، بتكرار مستميت، يستهلكون خطاباً متوتراً دون إدراكٍ بأن لغتهم المتشنجة تلك هي نتيجة المنفى، ونادراً ما تتواءم مع ما يتطلّبه الواقع السوري الجديد.
يمكن وصف ما يفكّر به أهل الداخل، أستثني هنا المنفيين ذاتياً لأسباب إيديولوجية، بأنه واقعية ما بعد الانهيار.
إن معظم السوريين في الداخل، المعارضين للأسد بمختلف أطيافهم، تحوّلوا إلى مدرسة سياسية واقعية، يقيسون المواقف بالنتائج، ويفضّلون تسوية غير كاملة على حربٍ كاملة..
من يتجوّل اليوم في أي مدينة سورية، تحت سيطرة السلطات الجديدة، سوف يقابل مزاجاً عاماً يميل نحو شيء واحد، الاستقرار، وليس دافع هذا لا حباً بنظامٍ جديد ولا كرها بآخر، بل خوفاً من أن تنزلق البلاد مجدداً إلى هاوية جديدة لن يخرج منها أحد سالماً.
يمكن القول: إن معظم السوريين في الداخل، المعارضين للأسد بمختلف أطيافهم، تحوّلوا إلى مدرسة سياسية واقعية، يقيسون المواقف بالنتائج، ويفضّلون تسوية غير كاملة على حربٍ كاملة، ويقبلون بحكمٍ لا يؤيدونه إذا كان البديل هو انفلات السلاح وانتقام الجماعات وهشاشة الدولة.
لقد اختبروا كل الاحتمالات القاتمة طوال سنوات، وخرجوا بقناعةٍ بسيطة “أي استقرار يحفظ كرامة وأمن السوريين أفضل من استعادة الفوضى”.
سيقول البعض إن هذا ليس موقفاً سياسياً بقدر ما هو قناعة وجودية، طبعاً لا أقصد هنا المعنى الفلسفي للوجودية، نعم هذا صحيح، فهم يرون أن المواطن، في هذه المرحلة على الأقل، يريد الكهرباء، والوظيفة، ومدرسة قريبة لأبنائه، وشارعاً آمناً، وهو لا يملك رفاهية الانخراط في سجالات نظرية حول “شرعية الشرع” أو “البديل المثالي” كما يراه كلٌّ من وجهة نظره.
هل أدعو للتواطؤ مع واقع محمول على توقعات بعضها قد يكون  كارثياً، فيما لو استمرت السلطات بالإقصاء والاستئثار؟ بالطبع لا، فالعمل السياسي المعارض حقٌّ لا يجب التنازل عنه، لكن جلّ ما أحاول إيصاله هو الواقع كما عايشته مع أصدقاء على الأرض، وكي أصل إلى نتيجة هامة سياسياً حسبما أرى، وهو أن القراءة الواقعية الصحيحة هي التي توصل إلى الاتجاه الصحيح سياسياً، وسيّان هنا إن كنت موالياً أو معارضاً.
في المقابل، يبدو جزءٌ واسع من السوريين في الخارج وكأنهم يعيشون داخل فقاعة خطابية، لا يقلّ انغلاقها عن الفقاعات الإيديولوجية التي عرفها السوريون طوال نصف قرن، فالموالي الجديد الفرح بما يجده “نصر” شخصي، يريد تفصيل سوريا على مقاسه، وغالباً على مقاس انتمائه، ما يعطي صورة مشوّهة عن مستقبل البلد فيما لو تحققت أمنياته.
والمعارض للحكم الجديد لا يكتفي بانتقاد الشرع وسياساته، وهذا حقٌّ لا شك، لكنّه يذهب إلى أقصى درجات الشيطنة، هناك من يصف الحكم الجديد بأنه نسخة ثانية من حكمٍ طائفي جديد سيمتلك قريباً جداً كامل مواصفات حكم الأسد، فيبدو بهذا الرأي كمن يعيش على حلمٍ معلّق وهو إسقاط الحكم الجديد، ولدى البعض، لا بأس من إسقاط الدولة نفسها، طبعاً لا أقصد هنا عموم معارضي الخارج، بل تياراً يرفع سقف الصراع إلى حدّ تجاهل كلفة الانهيار على المجتمع، وكأن الظروف الإقليمية والدولية، أو الخراب الذي عاشته سوريا، كلها مجرد تفاصيل قابلة للتجاوز.
هذا التشدد، من الجانبين، ليس مجرد موقف سياسي، إنه هروب نفسي، هروب من الاعتراف بأن المعادلة الدولية تغيّرت، وأن الداخل السوري لا يشبه المنفى، وأن القوى التي حسمت الصراع، إن كنّا معها أو ضدّها، لن تتراجع بسبب تغريدة ما طالبت بذلك، أو لأن ناشطاً صرخ في مؤتمرٍ ما.
بعد زياراتي لسوريا، بدا لي أن السوريين في الخارج يعيشون أحياناً وفق تاريخ يمكن وصفه بالمُجمَّد، توقّف هؤلاء عند لحظة إسقاط الأسد، بعضهم كما يبدو لي أنهم، على سبيل الطرافة، صحيح كانوا مع إسقاط الأسد لكن ليس إلى هذه الدرجة! بينما أهل الداخل اندفعوا بسرعة إلى ما بعدها، البحث عن التعافي والمطالبة بإعادة ترتيب المؤسسات، بمعنى أن الحوار يتركّز على الخلافات الواقعية والأولويات اليومية.
في الداخل يعاني الناس من إرهاقٍ جماعي، فيحتاجون بشدّة للأمان، ويرغبون بإلحاح في طيّ صفحة الدم، الاصطفاف هنا يقوم على سؤال بسيط، هل سيعيدنا هذا السياسي، موالياً أو معارضاً، إلى الفوضى أم سيُبقي البلد واقفاً؟ أما أهل الخارج فكثيرون يحملون ذاكرة صدماتهم وهزائمهم السياسية الشخصية، ويقيسون المشهد من خلال صراعهم مع الأسد لا من خلال مستقبل سوريا، فيطلبون الثأر أحياناً غير آبهين بالنجاة، وآخرون ما زالوا يعيشون الحالة الراهنة كموقف من الجهاد السلفي، دون أدنى التفاتة للتغيرات الدراماتيكية في الخطاب والسلوك. لذا يتحول كل موقف للجانبين إلى معركة ثأرية مع الماضي.
في سوريا، يبحث الناس عن الواقعيّ، حتى إن لم يكن مثاليّاً، جزء من مؤيدي الشرع ليسوا مؤيدين له بقدر ما هم مؤيدون لفكرة “الدولة”، طبعاً لا يعني ذلك أن الداخل كتلة واحدة متناغمة، لكنهم أقرب إلى الواقعية بحكم العيش على الأرض، وجزء من معارضيه يعارض أداءه السياسي لا وجوده في الحكم.
أما أهل الخارج فاصطفافهم غالباً إيديولوجي، واختزالاً، من مع الشرع ومن ضده؟  حيث لا وسطيّات، ولا درجات، كما لو أنهم مشغولون بالتعبئة من أجل لحظة انقلابية قادمة، لكن ضمن عالمهم الخاص الذي تحكمه الشعارات لا الوقائع.
ما يدعو للتفاؤل النسبي، رغم ما يحدث من صدامات أحياناً، أن الاختلاط اليومي في الداخل بين طوائف ومناطق مختلفة، بعد كل ما جرى، يفرض واقعية جديدة، فالجميع مضطر للتعامل مع الجميع.
وهذا يقلّل من النزعات القصوى، ويخلق حاجة للتعايش، وهنا يظهر الاقتصاد كأولوية وكأنه أكبر محرّك للمواقف السياسية، بينما يبدو أهل الخارج وكأنهم أفراد افتراضيين ضمن مجموعات الرأي فيعيشون بين أمثالهم داخل غرف الصدى.
مجموعات تتشكل حول الطائفة أو المنطقة وفي أحيان قليلة حول الإيديولوجيا، فتبدو تلك المجموعات وكأنها تعيد إنتاج خطابها لنفسها، أحياناً خارج أي سياق وطني جامع، والأهم دون أدنى شعورٍ بكلفة الفوضى اقتصادياً ومعيشياً على الناس.
منذ وصول الشرع وجماعته إلى حكم دمشق، تشكلت اصطفافات جديدة تختلف تماماً عن اصطفافات ما قبل سقوط الأسد، فنرى أن المؤيدين داخل سوريا ليسوا كتلة واحدة، بعضهم يرى في الشرع فرصة لإعادة بناء الدولة بلا فساد منهجي، بعضهم دعمه خوفاً من بديلٍ قد يكون للأسد حصّة فيه، وآخرون وجدوا فيه الرجل المقبول دولياً، مما سينقل سوريا إلى مكان آخر.
لكن القاسم المشترك بينهم هو الرغبة في الخروج من الحرب نهائياً، أما المعارضون فهم، بغالبيتهم، واقعيون، ينتقدون كل خلل بوضوح، إن كان في السياسات الاقتصادية وحتى في المواقف الوطنية العامة، طبعاً إضافة للتركيز على كل أخطاء المرحلة الانتقالية، لكنهم بالتأكيد يرفضون انهيار الدولة مجدداً.
المؤيدون في الخارج لا يختلفون كثيراً عن مؤيدي الداخل فهم يرون في الحال الراهن قطْعٌ مع إرث الأسد وربما الفرصة الأخيرة لإنقاذ سوريا، وهذا التأييد يبقى بارداً بكل الأحوال غير مرتبط بحياتهم اليومية، إلا حين يواجهون خصماً (عدواً) فيتحولون إلى خطاب إقصائي سام ذا منحى ثأري وإقصائي.
فمن يعيشون داخل سوريا يتعاملون مع السياسة كخيار حياة أو موت، بينما من يعيشون خارجها فإنما يتعاملون معها كمشروع أخلاقي أو فكري..
بينما معارضو الخارج، وهم الأعلى صوتاً، فيريدون تغييرات جذرية بخطاب المراحل الثورية الأولى، يتعاملون مع الحكم الجديد على أنه لا يتوافق مع أحلامهم القديمة والمؤجلة. دون إدراكهم لأمر بالغ البساطة والواقعية، وهو أن الناس اليوم ما عادوا يحتملون رفاهية الأحلام الكبيرة.
شخصياً أميل أكثر لرؤية أن الفارق بين الداخل والخارج ليس في الوطنية ولا في النوايا، بل في درجة ملامسة الواقع، فمن يعيشون داخل سوريا يتعاملون مع السياسة كخيار حياة أو موت، بينما من يعيشون خارجها فإنما يتعاملون معها كمشروع أخلاقي أو فكري.
لهذا لا يحدث هذا التوافق بين النظرتين بسهولة، مع أن سوريا الناجية اليوم تحتاج إلى مزيج جديد من واقعية الداخل وخبرة الخارج، فالبلد الذي خرج من أعمق جرح في تاريخه لا يحتاج إلى مزيد من الهدم، بقدر ما هو بأمسّ الحاجة إلى عقد اجتماعي يُعيد للناس ما فقدوه، وهو القدرة على العيش بأمانٍ وكرامة دون انتظار معجزة لن تأتي.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى