
من الطبيعي الاعتقاد أن الصين كانت تتوقع ردة فعل غاضبة مثل التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حين قرّرت قبل أيام فرض ضوابط واسعة جديدة على تصدير المعادن النادرة وتقييد وصول الشركات غير الصينية إليها، وهي اللازمة للصناعات التكنولوجية الحديثة المدنية والعسكرية، فقد أعاد ترامب رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بنسبة مئة في المئة، لتصبح قيمتها 130%، بعد شهور من التفاوض التجاري مع الصين الذي عُلّقت بموجبه مؤقتاً الرسوم الجمركية المتبادلة التي فرضها كلّ طرف على الآخر منذ إبريل/ نيسان 2025.
ولكن لماذا أقدمت الصين على قرارها ذاك، ما دامت تعرف أن ردّة فعل ترامب ستكون على هذا الشكل الغاضب؟ أغلب الظن أن تفكير الصين انبثق من تداعيات التفاوض مع الولايات المتحدة، الذي بدا من غير المرجّح أن يفضي إلى النتيجة المرجوّة بالنسبة لحكومة بكين، ومفادها التوقف عن الضغط على الصين تجارياً عبر تهديد صادراتها إلى السوق الأميركية، وقد ردّدت الصين مرّاتٍ أنها تود إقامة المفاوضات على أساس “الاحترام المتبادل”، في مؤشّر على أنها لا تلمس مثل ذلك الاحترام من المفاوضين الأميركيين، ولهذا بادرت إلى استعمال ورقة قوتها الرئيسية، وهي المعادن النادرة، في محاولة منها لإجبار واشنطن على التنازل في المفاوضات الجارية، مع إدراكها أن ردّة فعل ترامب ستكون عنيدة جداً، ولن تتمثل في الرضوخ، بل في الرد على التصعيد بتصعيد مماثل. وهو ما كان.
ولكن هل غسلت الصين أيديها من التفاوض التجاري مع الولايات المتحدة حقاً، واختارت الذهاب إلى حربٍ تجاريةٍ مع واشنطن؟ أم يقع الأمر برمته في خانة المناورات التفاوضية بين الطرفين؟ الملاحظ أن ترامب في ردّة فعله الأولية على قرار بكين تقييد تصدير المعادن النادرة، بدا كمن يتّجه إلى إلغاء اجتماعه المرتقب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي في كوريا الجنوبية بعد أيام، إذ كتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنه لا يجد سبباً للقاء شي، غير أنه عاد بعد ساعات ليقول للصحافيين إنه لم يُلغِ اللقاء، لكنّه لا يعرف ما إذا كان سيعقد، مضيفاً: “على أي حال، سأكون هناك، لذا أعتقد أننا يمكننا عقده”. ويعني هذا التردّد أن فرص التفاوض بين الجانبين ما تزال كبيرة.
فرص التفاوض بين الجانبين الأميركي والصيني ما تزال كبيرة
بل ربما يمكن الذهاب إلى القول إنّ القرارات التصعيدية التي اتخذها الطرفان تمهد لاجتماع شديد الأهمية بين الرئيسَين، يتجاوز المضمون التفاوضي فيه كل ما جرى خلال الشهور الفائتة، وقاد إلى الاتفاق على هدنة تجارية بين البلدين في مايو/ أيار الفائت مدّتها ثلاثة شهور، جرى تمديدها مرّة أخرى لتنتهي في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بحيث أعيد خفض الرسوم الجمركية على المنتجات الأميركية والصينية من 125% و145% على التوالي إلى 10% و30%، وهي النسب التي كانت مفروضة من كل طرف على بضائع الآخر الواردة إليه قبل قرارات فرض الرسوم الجديدة، وانشغل الطرفان بالتفاوض على تنفيذ الاتفاقات التجارية السابقة بينهما، وضمان تدفّق المعادن النادرة.
وهذا يعني أن التصعيد بين البلدين يضعهما أمام مفترق طرق حقيقي؛ فإما التفاهم ونزع فتيل الأزمة في لقاء مباشر بين الرئيسَين بعد أن رمى كل واحد من الطرفين كل أوراق قوته، أو الذهاب إلى حرب تجارية واسعة ستُدخل العالم كله في مرحلة تاريخية جديدة؛ إذ من المتوقّع أن تفضي إلى حرب سياسية أكثر تعقيداً من حالة التنافس السياسي الدائرة بينهما منذ 2015، حين ذهبت الصين إلى العمل على تغيير النظام العالمي المستقر منذ نهاية الحرب الباردة، من نظام أحادي القطبية تتزّعمه الولايات المتحدة إلى آخر جديد متعدّد الأقطاب.
تدرك بكين أهمية ورقة الضغط التي تملكها في مواجهة واشنطن، متمثلة في المعادن النادرة التي تسيطر الصين على 90% من إنتاجها العالمي ونحو 50% من احتياطياتها
تدرك بكين أهمية ورقة الضغط التي تملكها في مواجهة واشنطن، متمثلة في المعادن النادرة التي تسيطر الصين على 90% من إنتاجها العالمي ونحو 50% من احتياطياتها، تليها البرازيل ثم فيتنام وروسيا، مقابل 12% فقط في الولايات المتحدة، بل يصدّر المنجم الوحيد للمعادن النادرة الموجود في الأراضي الأميركية المستخلصات من كاليفورنيا إلى الصين، لتجري معالجتها هناك، بسبب الأضرار البيئية الناجمة عن معالجتها، التي تبدو الصين أقل تشدّداً فيها من الولايات المتحدة.
منبع أهمية تلك المعادن النادرة دورها المحوري في الصناعات التكنولوجية الحيوية، السلمية والعسكرية، خصوصاً الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية والمنتجات الطبية كأدوية علاج السرطان، وتوربينات الرياح الكهربائية، والمصابيح الموفرة للطاقة، والبطاريات القابلة لإعادة الشحن، والعتاد العسكري والتطبيقات العسكرية، ما يدل على أهميتها الاستراتيجية حاضراً ومستقبلاً. وقد بلغ فزع الولايات المتحدة من حاجتها إلى هذه المعادن أنها سعت إلى استغلال الحرب الروسية الأوكرانية للضغط على كييف للحصول على حقوق امتلاك 50% من معادنها النادرة التي تنتشر في مناطق النزاع مع روسيا في شرق البلاد، مقابل المساعدات العسكرية الأميركية التي قدّرت بنحو نصف تريليون دولار منذ اندلاع الحرب في فبراير/ شباط 2022، وتشمل معادن الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، التي تدخل في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية والمفاعلات النووية وغيرها.
وإلى جانب تلك المعادن التي تتوفر في أوكرانيا ودول أخرى، تسيطر الصين على أنواع أخرى، مثل عنصر الديسبروسيوم، وهو معدنٌ نادرٌ يتميز ببريق معدني فضي، يدخل في تصنيع مغناطيسات تشغّل كل شيء في الصناعات التكنولوجية الفائقة، من المعدّات الطبية إلى محرّكات السيارات الكهربائية، إذ ببساطة لا يمكن تشغيل محرّك السيارة الكهربائية من دونه. وهكذا، حين تقرّر الصين فرض قواعد جديدة يتعين بموجبها على الشركات الأميركية الحصول على ترخيص لتصدير المنتجات التي تشكل المعادن النادرة أكثر من 0.1% من قيمتها، فإنها تضع صناعة السيارات الكهربائية في العالم تحت التهديد المستمر، وكذلك صناعات أخرى مهمّة. ولهذا بالضبط تعرف الصين أنها قادرة على الضغط على واشنطن، ثم الجلوس معها إلى مائدة المفاوضات مجدّداً، مهما كانت ردة فعلها غاضبة ومتشنّجة.
المصدر: العربي الجديد