عائدون إلى أطلال البيوت

حسن مدن  

المشهد الذي تابعناه في اليومَين الماضيَين لأهالي غزّة وهم يعودون مشياً من أماكن نزوحهم في الوسط والجنوب إلى الشمال أصبح مكرّراً. مجرّد أن تلوح بارقة أمل في أنّ هدنةً ستتم يتكرّر المشهد نفسه. عن مشي أهل غزّة قلتُ مرةً: “إنّه فعل مقاومة صامتة في وجه الحصار والموت. المكان نفسه يحتفظ بصورتَين متناقضتَين في ذاكرة الناس هما: صورتا الحياة اليومية والفزع الجماعي. بعض الطرق التي يهرب منها الناس اليوم هي نفسها التي يعودون إليها لاحقاً بخطواتٍ مرتجفة، يبحثون بين الأنقاض عن بابٍ يعرفونه، أو عن شرفةٍ لم تسقط بعد”.

هذه المرّة أيضاً، وبعد أن صمتت المدافع، أو كادت، بدت غزّة مدينةً تستيقظ من كابوس. الدُّخان لا يزال يعلو من بعض المباني، ورائحة البارود تختلط بغبار الركام في هواءٍ خانق، وكأنّ الدخان ما زال يختبئ في أنفاس الناس. الشوارع التي كانت شرايين الحياة صارت أخاديد من الركام، والأزقّة التي كانت تضجّ بأصوات الباعة والأطفال تحوّلت إلى صدىً بعيد لخطى حائرة تبحث عن بيتٍ لم يعُد موجوداً. تسير العائلات عبر الطرق التي تحوّلت إلى أنقاض متشابكة، وأكوام من الإسمنت والحديد المتفحم، فتبدو المدينة كما لو أنها خارجة من زلزالٍ مُدمر، وهذا ما كان بالفعل… زلزال دموي امتدّ عامَين متواصلين.

تسير العائلات في صمتٍ مثقل، يحمل أفرادُها ما تبقّى من حقائب النزوح، بعضها ممزّق وبعض آخر يضمّ صورة، أو مفتاحاً لبيتٍ لم يبقَ منه سوى جدارٍ يتكئ على العدم. حين يبلغ الناس أحياءهم لا يجد بعضهم سوى اللافتة المعدنية التي كانت تحمل اسم الشارع، فما بلغوه أطلال البيوت وليس البيوت نفسها. ينصُب بعضهم خياماً فوق أنقاض بيوتهم، ففي البقاء في المكان نفسه نوع من إعلان التحدّي، كأنهم يكتبون من جديد تعريفاً مختلفاً للانتصار، انتصار البقاء. آخرون يحفرون بأيديهم بحثاً عن وثائق أو صور عائلية، أو حتى مقتنيات بسيطة تحمل ذكرى حياةٍ كانت هنا، وكأنّ لملمة الأشياء المكسورة محاولة لاستعادة الذات نفسها.

بحسب تقديرات أوليّة صادرة عن وزارة الأشغال العامة في غزّة، أكثر من 60 ألف وحدة سكنية دُمّرت كلياً أو جزئياً خلال الحرب الأخيرة، فيما نزح نحو 700 ألف شخصٍ إلى مدارس ومراكز إيواء مؤقتة، ويعاني ما تبقى من مرافق صحية تقصاً حادّاً في الإمدادات، وتكاد المياه الصالحة للشرب أن تكون معدومة.

المدينة كلّها تشبه جرحاً مفتوحاً يتنفس. لا فرح في العيون، ولكنّ ثمّة نور صغير يشعّ من الإصرار على البقاء. كأنّ غزّة وقد قامت من الركام تقول: “أنا هنا… مهما حدث”، ما يجعلنا نستعيد ما قاله عنها المؤرّخ المقدسيّ عارف العارف، في كتاب صدر علم 1943: “غزّة من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلّها، ورفيقة العصور الفائتة كلّها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”، كما تنقل لنا عنه أميمة الشاذلي في تقرير نشر على موقع “بي.بي. سي” في أغسطس/ آب الماضي.

هل أوشكنا على القول إنّ غزّة انتصرت بعد حرب الإبادة والتدمير والتجويع والتهجير؟. … الجواب هنا يتجاوز المقاييس العسكرية البحتة. حجم الخسائر في الأرواح والمنازل والبنى التحتية مأساوي، لكن الحرب ليست أرقاماً فحسب، ولا تُختزل في ميزان السلاح. الانتصار، في بعده الأعمق، هو بقاء الإرادة، ففي كل مرة تُقصف غزّة وتنهض، في كل مرة يعود أهلها إلى الركام ليعيدوا بناء حياتهم من الصفر. تُصاب رواية القوّة بالهشاشة لأنّ الهدف الحقيقي من الحرب كان كسر الروح، لا هدم الجدران فقط، وهذه الروح لم تُكسر.

لم تنتصر غزّة عسكرياً، لكنها لم تُهزم إنسانياً، وقد تكون إسرائيل ربحت جولة نارية، لكنّها خسرت سرديّتها أمام العالم وانكشف زيفها. ورغم خسارتهم الموجعة في الأرواح والممتلكات، كسب الفلسطينيون ثباتاً معنوياً جعل من فكرة كسر إرادتهم أمراً مستحيلاً. المحصلة الأهم هي في الوعي العالمي المتغيّر تجاه ما يجري في غزّة وفلسطين كلّها، فما بقي من غزّة أكثر مما ظنّ العالم أنّه سيفنى فيها: روحٌ جماعية تصرّ على الحياة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى