هل يريد الأمريكان وحدة سورية حقّاً؟

أحمد مظهر سعدو

                       

ضمن سياقات متغيّرةٍ في أوضاع السوريين، بعد ما جرى في 8 ديسمبر/ كانون الأول الفائت، وعلى هدي حالة دراماتيكية لم تشهدها المنطقة العربية برمتها، ومن خلال حالة متلاحقة من تلوّن المشهد السياسي في سورية وتغيّره، بات يصعد إلى مخيال السوريين وما يزال السؤال المحوري الذي هو من حق كل سوري أن يطرحه على نفسه: هل تريد الولايات المتحدة ومن ثم الترامبية الجديدة في أميركا حقّاً دعم وحدة سورية وبناء مؤسّساتها؟ بعد انهيار نظام الفاشيست الأسدي وفرار بشّار الأسد إلى موسكو؟ وهل كانت أصلاً كل سياسات الولايات المتحدة وإداراتها المتعاقبة، جمهورية أم ديمقراطية، تعمل على بناء الدول وتماسكها ووحدتها؟ أم أنّ “المولوخ إله الشر”، كما وصف أميركا كاتب ألماني في لحظةٍ مضت وانقضت.

ما يتمظهر على السطح إعلاميّاً، وعبر تصريحات غير مسؤول أميركي أنّ الإدارة الأميركية الحالية تريد استقراراً في سورية، كما تريد وحدة للأراضي السورية، ضمن سياساتها المتتابعة في التعاطي مع الملف السوري، وهو ما يؤكّده بعضهم أن أميركا تسارع بخطواتٍ تلو خطواتٍ نحو إزالة كل العقوبات التي كانت مفروضة على سورية، مع وجود حكم آل الأسد في السلطة، وكان جديدها أخيراً خطوة مجلس الشيوخ الأميركي عبر التصويت بالأغلبية على إدراج بند إنهاء قانون قيصر للتصويت لاحقاً، ورفع (من ثم) كل العقوبات المفروضة أميركياً على السوريين، خلا العقوبات الفردية التي سبق وأن طاولت أفراداً وشخصياتٍ أساسية في نظام الأسد. ولكن ذلك كله لا يمنع من أن الأميركيين لم يسحبوا البساط كليّاً بعد من تحت أقدام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وما برحت الولايات المتحدة حاضنة مستمرة لأهل هذا التشكيل، وراعية متواصلة لتسويقه وأدواته في المنطقة، بدعوى مكافحة الإرهاب الداعشي، رغم ولوج دمشق أخيراً في “التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب” لتكون بديلاً موضوعيّاً من أيّ تنظيم أو مليشيا داخل التحالف المذكور.

ما زالت أميركا تتفرّج ولا تمارس أي ضغط جدّي على “قسد”، بل هي تحاول مراضاة الطرفَين، من دون وجود حل عملي ينهي حالة التشظّي التي باتت قلقاً حقيقيّاً للسوريين

الاتفاق الذي جرى توقيعه في 10 مارس/ آذار المنصرم بين زعيم “قسد”، مظلوم عبدي، والرئيس أحمد الشرع، برعاية أميركية، ما زال يراوح بالمكان تنفيذيّاً، وما زالت حكومة دمشق تقول إنّ “قسد” لم يُنفّذ منه إلّا اليسير، بينما تقول “قسد” إنّ من يعوق تنفيذه هي الحكومة في دمشق. بينما تتجلى بين فينةٍ وأخرى خروقٌ وتعدّيات عسكرية وأمنية كثيرة. وتريد “قسد” تطبيق لامركزية سياسية، ودمشق لا توافق إلّا على لامركزية إدارية. تريد “قسد” أن يكون انضمام الكتلة العسكرية التي لديها إلى الدولة السورية مجموعةً واحدةً متماسكة لا تقبل التفتيت أو التوزيع على المحافظات، لكن دمشق لا تقبل من “قسد” الانضمام إلى مؤسّسة الجيش العربي السوري ووزارة الدفاع السورية إلّا جزءاً من الجيش، ليكون ذلك قابلاً للتوزيع حسب ما ترتئيه قيادة دمشق، وحتى لا يقيم وجوده كتلة واحدة حالة من التربّص تجعله مهيّئاً للانفصال هنا أو هناك.

يجري ذلك كله تباعاً وما زالت أميركا تتفرّج ولا تمارس أي ضغط جدّي على “قسد”، بل هي تحاول مراضاة الطرفَين، من دون وجود حل عملي ينهي حالة التشظّي التي باتت قلقاً حقيقيّاً للسوريين، خصوصاً بعدما حصل في الجنوب السوري منذ يوليو/ تموز الفائت، والانتهاكات الكبرى التي جرت، وأدّت إلى مزيد من الفرقة، وحالة ميدانية من الانقسام. وهنا أيضاً يمكن أن نقول: صحيح أن المبعوث الأميركي توم برّاك، وقّع تفاهماً من أجل الجنوب، والسويداء منه خصوصاً، مع وزيرَي الخارجية الأردني أيمن الصفدي والسوري أسعد الشيباني، وهذا شهر مضى على التوقيع والإعلان عنه، من دون أي تنفيذ على الأرض، وما زالت السويداء منعزلة عن محيطها السوري، ولا حلّ جدّيّاً يلوح في الأفق، ولا تدخّل أميركياً قويّاً في ذلك، والإدارة الأميركية قادرة بكل تأكيد فيما لو ضغطت على الإسرائيليين، كي يكفّوا عن اللعب بورقة السويداء، والاستمرار في التعدّي على الجغرافيا السورية ومنع حكمت الهجري ومجموعته من تنفيذ الاتفاق.

لا أميركا تهمّها واقعيّاً وحدة سورية، ولا إسرائيل بالضرورة التي عملت وما زالت تعمل على تفتيت ليس سورية فحسب، بل المنطقة العربية برمّتها

من هنا؛ يمكن القول إنّ السياسات الأميركية المعلنة ما زالت تقول بوحدة سورية ومنع التقسيم، لكنها لا تفعل ما هو حقيقي وجدّي على أرض الواقع لتنفيذ ذلك. ورب قائل يقول: أمّا وأن الأمر كذلك لماذا لا تقوم حكومة دمشق بدورها الوطني الحواري بعيداً عن التدخلات الخارجية، وتفتح حواراً سوريّاً – سوريّاً وطنيّاً شفافّاً وصريحاً في السويداء وشمال شرق سورية، يفضي إلى حلول وطنية تعضّ على الجراح، وتمنع التدخّلات الخارجية، وتساهم في محاسبة الجناة وتطبيق القانون السوري الوضعي، تهيئة لمرحلة ما بعد انتقالية تؤسّس لدستور سوري دائم، وليس إعلاناً دستوريّاً، وتشرك الجميع في مؤسّسات سورية وطنية تنفيذية وتشريعية، وهو، كما يبدو، بات المدخل الإجباري الموجود، وليس سواه. فلا أميركا تهمّها واقعيّاً وحدة سورية، ولا إسرائيل بالضرورة التي عملت وما زالت تعمل على تفتيت ليس سورية فحسب، بل المنطقة العربية برمّتها، ليسهل عليها الولوج بآليات تنفيذية لبناء الشرق الأوسط الجديد الذي يريده نتنياهو، وهو الخارج في المنطقة من حروبٍ يعتقد أنه انتصر فيها، وأعاد بناء فائض القوة لديه، الذي يؤهله لقيادة المنطقة في مقبل الأيام، في ظلّ الضعف والهوان العربي، وقلة الحيلة، وغياب أي مشروع عربي جدّي في مواجهة العربدة والصلف الإسرائيليَين.

في ظلّ تجلي هذين المشهدين، السوري والإقليمي، تصعد وبإلحاح في الحالة الوطنية السورية مسألة العودة إلى الداخل السوري، وفتح الأبواب المغلقة على مصراعيها، من حكومة دمشق، ولوجاً بالحلّ الوطني السوري الديمقراطي الحواري، الذي يتجاوز كل الآلام ويضمّد الجراح، ويحاور الجميع، بكل صراحةٍ وشفافية، وهو المدخل الضروري والأكيد من أجل سورية موحّدة وحرّة وقوية وقادرة على بناء نفسها، من دون الانتظار حتى يتحرّك الأميركي ويقوم بالدور، وهو لن يفعل، إن لم يفعل السوريون أنفسهم.

التحدّيات صعبة وقاسية، والمهام شاقة، وليست أوضاع سورية سهلة ولا سلسة، إن لم يدرك السوريون جميعاً أن مستقبلهم يرسمونه بأنفسهم، وأن العدالة الانتقالية كانت وما زالت مدخلاً ضروريّاً لإحقاق السلم الأهلي، ومنع الاقتتال الداخلي، مهما طال الزمن ومهما كانت الآلام ومهما كانت الجراح عميقة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى