غيبوبة مخدرات البازوكا، والنوبات القلبية والغيبوبة المحفزة اصطناعيا. خيضت الحرب حول اقتصاديات أزمة “كوفيد-19” بالمجازات. وكذلك سيكون حال المستقبل أيضاً. أيها ينبغي أن نتوقع؟ وأيها هي التي ينبغي أن نأمل قدومها؟
هيمنت على العقود الثلاثة التي أعقبت سقوط جدار برلين في العام 1989 مجازات الحركة غير الاحتكاكية: التدفقات، والمجسّات، والشبكات. وتم تزويدنا بمجموعة من الدوائر الشبكية المنتشرة عبر سطح الكرة الأرضية، والتي تم بناؤها بدقة كبيرة لتلائم العرض والطلب لدى المستهلكين.
هذا العام، ثمة مجاز آخر أصبح سائداً ولا مفر منه: سلاسل التوريد. وكانت السلاسل ثقيلة. وكشفت المعارك على أقنعة الوجه ومعقمات الأيدي وأدوات الاختبار والقفازات المطاطية عن صراعات محتدمة حول الاعتمادية الاقتصادية، خاصة بين الولايات المتحدة والصين.
كانت الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في السنوات الثلاث الماضية قد أشارت إلى اتجاهين مختلفين: إما إلى عولمة مُعادة الإطلاق تحت قبضة النزعة الأحادية الأميركية، أو تقليص لحجم التدفقات عبر الحدود. وعلى الرغم من توقعات المعلقين والاقتصاديين، فإن الاتجاه الأخير لم يتحقق بعد. وكما أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال”، فقد تقلصت التجارة العالمية بنسبة 1 في المائة في العام 2019 -لكن هذا تركها في موضع ثاني أكبر عام مسجل على الإطلاق.
إذا كان الوباء يحفز حقاً انعكاساً لوجهة العولمة، فإن المجاز الناضج ليلتقط ذلك حاضر في عناوين الصحافة المالية: “الانفصال” decoupling. وباعتباره صرخة معركة بالنسبة للبعض، ونوبة موت لآخرين، أصبح الانفصال يعني فك الارتباط المتبادل بين الاقتصادين الأميركي والصيني و”إعادة توضيع” سلاسل التوريد والقدرة التصنيعية بجلبها إلى الولايات المتحدة.
على الرغم من أن المؤيد الرئيسي لفك الارتباط في الولايات المتحدة هو بيتر نافارو Peter Navarro، المستشار الاقتصادي لدونالد ترامب، فإنها فكرة يبشر بها أيضا الممثل التجاري الأميركي روبرت لايتهايزرRobert Lighthizer. ويبدو أنهما يحظيان بدعم شعبي. فقد أظهر استطلاع أجري حديثاً أن ما يقرب من 60 في المائة من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن “تسحب التصنيع من الصين”، وتعتقد أكثر من نصف الشركات الأميركية التي تتخذ من الصين مقراً لها بأن الانفصال ممكن (في زيادة بنسبة 22 في المائة عن تشرين الأول (أكتوبر) 2019).
كان أحد الإنجازات البسيطة لإدارة ترامب هو تحقيق الإجماع عبر الحزبين بشأن الصين لتتحل من شريك تجاري إلى تهديد اقتصادي. وقد انضم المرشح الديمقراطي، جو بايدن، إلى الجوقة المناهضة للصين.
إذا أصبح الانفصال هو الأفق الجديد للحس السياسي السليم، فمن الجدير التساؤل عن أصول المصطلح. تم استخدام “الانفصال” بهذا المعنى لأول مرة على نطاق واسع بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة في العام 2008. ورأى المراقبون أن الاقتصادات الصناعية الصاعدة في الصين والهند تُظهر مرونة ملحوظة -حتى بينما تعاني أميركا من تباطؤ اقتصادي. وتكهنوا (بشكل غير صحيح كما اتضح فيما بعد) بأن هذه البلدان، مثل عربات القطارات، قد “انفصلت” بنجاح عن قاطرة الاقتصاد الأميركي وربما أصبحت تركض الآن بقوتها الخاصة.
كان الانفصال في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو رؤية عالم متعدد الأقطاب ينشأ من الجنوب العالمي. وهي رؤية احتوتها الآن دول الشمال. لكن رؤى الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي ما تزال بعيدة المنال. وكما قال علماء السياسة البارزون في مجلة “فورين أفيرز” في كانون الأول (ديسمبر)، فقد “فات الأوان لفك الارتباط” من دون تخليق مستويات لا تطاق من الاضطراب في حياة الناس. يجب ألا يرحب اليسار بفانتازيا الانفصال. لن يتوقف تغير المناخ ولا الأوبئة المستقبلية عند الحدود بغض النظر عن مدى ارتفاع جدار التعريفة الجمركية، في حين أن أي نوع من الأممية الفعالة سيقوضه منطق منافسة محصلتها صفر.
بدلاً من النظر إلى سلاسل التوريد على أنها روابط يجب قطعها، يجب أن نعيد تصورها كدوائر من الاعتمادية المتبادلة، وشهادة على عدم قدرتنا على الانسحاب من العالم. بدلاً من التسلّي بفانتازيا الاكتفاء الذاتي، والتي لن تستخدم إلا كهراوة لانتزاع شروط أفضل من المنافسين، نحتاج إلى رؤية سلاسل التوريد كما يفعل الاشتراكيون البيئيون، كسلاسل من فرص العمل عبر الوطني. في حديثه في المنتدى الاجتماعي العالمي في العام 2004، قدم ماركوس أروداMarcos Arruda من شبكة اقتصاد التضامن البرازيلي مجازه الخاصة: بدلا من سلاسل التوريد، “سلاسل التضامن”.
استندت الدورة الأخيرة من تاريخ العالم بين العام 1989 والوقت الحاضر إلى صور مشرقة “للأسواق غير المقيدة” والعولمة المربحة للجانبين التي طارت في وجه الحقائق -ولن توقف الحقائق أي سرد يأتي تالياً. ومن دون ابتكار مجازاتنا الخاصة، سوف نضطر إلى العيش مع تلك المجازات التي يصنعها لنا اليمين القومي.
*Quinn Slobodian: أستاذ مشارك في التاريخ بكلية ويلسلي، ومؤلف كتاب “العولمة: نهاية الإمبراطورية وولادة النيو-ليبرالية”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The world to come: The cycles of history
المصدر: (ذا نيو ستيتسمان) / الغد الأردنية