
شكّلت موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأيام القليلة الماضية حدثاً مهمّاً، على الصعيدَين الدبلوماسي والسياسي، وحتى الإيطيقي (الأخلاق العامة). لا يمكن إرجاع هذا الاعتراف إلى سبب واحد أو خلفية موحّدة، فلكل موقف سياقاته الخاصّة. ولكن، ثمّة قواسم مشتركة كثيرة، لعلّ أهمها أنها في مجملها تأتي فيما حرب إبادة لا تزال رحاها تطحن مئات الألوف من الأبرياء، الأطفال والشيوخ والنساء، منذ نحو سنتَين. باستباقها الذكرى الثانية لاندلاع هذه الحرب، تحرص الاعترافات المتتالية أن تكون صرخةً في وجه المحتلّ والضمير العالمي المتواطئ عجزاً وخوفاً، كما أنها تأتي أيضاً وجلّ هؤلاء الزعماء يطوي حقائبه باتجاه الأمم المتحدة ومقرّها في نيويورك، الذي ضمّ الاجتماع الدوري للجمعية العامّة، وهي التي يحجّ إليها سنوياً قادة العالم وزعماؤه. الإعلان من هذا المكان كان بلاغاً بأنّ الأمر جلل، وأن الحاضرين شهود على هذا الاعتراف، وقد كان بالإمكان أن يكتفي البلد باعتراف باهت من بعيد، غير أن بعضهم أمعن في الذهاب بعيداً في تقصّي هذه الوظيفة الإبلاغية (والبلاغية أحياناً) أمام “سوق عكاظ السياسي”، الذي ستكون فيه خطب الزعماء والقادة محلّ متابعة من ملايين الناس، فضلاً عن نقل تفاصيل ذلك كلّه إلى شبكات التواصل الاجتماعية.
أسهمت التوجّهات الغيرية في الانفتاح التاريخي الدولي على الحقّ الفلسطيني
كانت كلمتَا الرئيسَين الكولومبي والبرازيلي مثلاً محلّ متابعة وإشادة من ملايين المشاهدين وهم يعبّرون عن مواقفهم الراديكالية تجاه إسرائيل، والغريب أن لا أحدَ ضاهاهما من الزعماء العرب، فاختفت خطب هؤلاء “الرنّانة” التي كانت تشنّف الآذان، حتى إن ظلّت حبيسة جدران المنظمة الأممية في نيويورك.
ولعلّ من بين حالات الاعتراف الدالّة كلٌّ من إسبانيا وفرنسا وبريطانيا، ما يدعو إلى تقفّي أثر الدلالة وراء هذه المبادرات الثلاث. ففي الحالة الإسبانية، كان الموقف الرسمي للحكومة من الكيان الإسرائيلي فاتراً منذ سنوات، بغضّ النظر عن صعود اليمين أو اليسار، غير أن ذلك لم يصاحبه في المقابل حماس ما للقضية الفلسطينية، باستثناء بعض الحالات النادرة. غير أن صعود اليسار خلال السنوات الماضية سدّة الحكم، صاغ نوعاً من الذائقة السياسية، ومن الحساسية المرهفة تجاه الفلسطينيين، ودعّم الأمر منذ انطلاق الحرب على غزّة وجود الزعيم الاشتراكي بيدرو سانشيز رئيساً للحكومة (منذ سنة 2018)، وقد شغل قبل ذلك منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي الإسباني. وقد شكّلت الثقة المتصاعدة فيه، وتوافق الرأي العام الإسباني الواسع حوله، حافزَين لاتخاذ هذه الخطوة الجريئة وغير المحسوبة، خصوصاً أن إسبانيا ظلّت عقوداً حصناً كاثوليكياً بالمعنى الثقافي للكلمة. يتزامن هذا الموقف مع مراجعة راديكالية في مقاربات تاريخ العرب والمسلمين في إسبانيا لنزع تلك الشيطنة كلّها التي صاغت السرديات السابقة. هذه القراءة الجديدة التي لا تلعن ذلك التاريخ، بل تدمجه، لا يُستبعد أنها كانت عاملاً مهمّاً في التغريد خارج السرب الأوروبي المناهض عموماً للقضية الفلسطينية. الموقف الذي اتخذته إسبانيا لعبت فيه العوامل الداخلية دوراً مهمّاً طبعاً، إلى جانب فظاعة الحرب ذاتها، التي تحوّلت كابوساً مؤلماً لكل ضمير إنساني. تخلّصت إسبانيا ممّا يمكن أن يشكّل لها حرجاً من خلال التخلّص من “خطيئة” طرد اليهود من إسبانيا (مرسوم الحمراء في 31 مارس/آذار عام 1492)، وهي المسألة التي وظّفها اليهود من أجل ابتزاز هذا البلد الأوروبي، وذهبت بدلاً من ذلك في اتجاه إنصاف الحاضر الفلسطيني بكل آلامه ومأساته، على خلاف ألمانيا مثلاً التي ظلّ عقلها السياسي ملتفتاً إلى عُقد الماضي وخطاياه، حتى لو كان ذلك بتغافل عن الحاضر بكل بشاعاته المُرتكَبة من ضحية الماضي، الذي تحوّل جلّاداً متوحّشاً.
أمّا بريطانيا، فهي البلد الذي أعطى ما لا يملك وأصدرَ وعد بلفور المشؤوم، مطلقةً بذلك مساراً مشيناً من تشريد الفلسطينيين والاستيلاء على حقّهم التاريخي. لقد أحلّت شتاتاً وشرّدت شعباً. لم تستطع بريطانيا أن تكفّر عن ذنبها بعد أكثر من قرن على هذا الوعد، بل واصلت غيّها، وكانت شريكاً في جلّ ما اقترفته إسرائيل في حقّ الفلسطينيين والعرب عموماً، واستعملت أكثر من مرّة حقّ النقض (فيتو) نصرةً لإسرائيل. والأسوأ من هذا كلّه، أن بعض القيادات البريطانية، التي تولت رئاسة الحكومة من اليسار العمالي، كانت أكثر تحالفاً مع إسرائيل، على غرار توني بلير، الذي كانت سياساته عربياً سيئة ومنحازة للكيان الإسرائيلي أكثر من نظرائه من اليمين. شهدت بريطانيا أثناء الحرب على غزّة تحرّكات مهمّة في جلّ مدنها، ومنها العاصمة لندن، مناصرةً للفلسطينيين ومستنكرةً للحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل. الوجود العربي العريق فيها، فضلاً عن الاختراقات المهمّة في نخبها السياسية التي انفتحت على “المختلف”، سواء من جهة اللون أو الديانة، كانت عاملاً ساهم في بعض هذا الاعتراف أيضاً. وكانت تصريحات دونالد ترامب في حقّ عمدة لندن أخيراً، واتهامه له بـ”الحرص على تطبيق الشريعة”، وأن لندن أصبحت “مدينةً لا تطاق”، جزءاً من حرب نفسية تكبح هذا الإنصاف التاريخي الذي يشمل الفلسطينيين. إن هذه التوجّهات الغيرية قد أسهمت في الانفتاح التاريخي على الحقّ الفلسطيني.
تجاهل السياقات الأوروبية الداخلية التي دفعت نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية يقدّم تحليلات جزئية
أمّا فرنسا فكانت حقّاً استثناءً دالّاً، وهي التي ظلّت حتى آخر أسابيع الحرب حصناً عسيراً على اختراق الرأي العام. فباستثناء بعض المظاهرات القليلة، لم يفلح مناصرو القضية الفلسطينية في تعبئة الشارع الفرنسي أو الضغط على ساسته. تشهد فرنسا خلال العقود الماضية انزياحاً، حكومة وشعباً، نحو أقصى اليمين السياسي المناهض للأجانب والعرب خصوصاً، ولئن حرصت فرنسا على أن تكون لها تمثيلية فلسطينية على المستوى الدبلوماسي منذ الثمانينيّات، فإنّها ظلّت ميّالةً إلى الرؤية الصهيو-يمينية في مقاربة المسألة. الزيارات المتكرّرة للقادة الفرنسيين إلى عاصمة الكيان الإسرائيلي، وانحيازهم المفضوح لأطروحاته، جعل بعض رؤساء حكوماتها موضع غضب شعبي فلسطيني، وكلنا يتذكّر الحجر الذي انهال على رئيس الوزراء الأسبق ليونيل جوسبان خلال زيارته جامعة بيرزيت في فبراير/ شباط 2000، وطرده من الجامعة. كان اليسار الفرنسي التقليدي أشدَّ ميلاً إلى إسرائيل من اليمين ذاته أحياناً. غير أن الاحتقان السياسي الداخلي الذي مرّت به فرنسا، وضغط اليسار الراديكالي على الحكومة باقترابه من أطروحات مناهضةٍ للعولمة وذات أفقٍ إنساني، دفعا بالرئيس ماكرون إلى قفزة جريئة علّه يطيّب خواطر هؤلاء، ويسحب البساط خصوصاً من تحت غضب متنامٍ في ظلّ العناد الذي اتسمت به مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، وكلّنا يتذكّر أن الموقف الفرنسي المُعترِف بالدولة الفلسطينية يتزامن تقريباً مع إقالة البرلمان حكومة فرانسوا بايرو في الأيام السابقة.
الحرب على غزّة، والمناخان الجيوسياسيان؛ الإقليمي والدولي، شكّلوا المواقفَ التي ذهبت إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، غير أن تجاهل السياقات الداخلية لا يمكن إلّا أن يقدّم تحليلات جزئية. ومع كل هذه الشجاعة والجرأة يُخشى من بعض الرهانات المعقودة على هذا الاعتراف، لاعتبارات تتعلّق بالرغبة النفسية المَرضية في تبرئة ضمير ظلّ متكلّساً غير مبالٍ بالمآسي التي عرفتها فلسطين، وغزّة تحديداً. القادة شهود على حصار غاشم أمات الناس هناك بلا شفقة ولا رحمة، لكن قد يفتح هذا الاعتراف موجة كسل دولي، وكأنّ المطلوب قد أنجز، والحال أن حرب الإبادة متواصلة.
المصدر: العربي الجديد