السرديات الصهيونية… محدّدات الانكشاف

كمال رعاش

                                    

لم يكن “طوفان الأقصى” عملاً ميدانياً بأبعاده العسكرية والاستخباراتية واللوجستية فحسب، بل هو منعطف لسجال طويل بين سردية فلسطينية مشروعة أخلاقياً فقدت الأدوات اللازمة لفرضها في العالم وسردية صهيونية مصاغة ومدعومة أميركياً وأوروبياً بمرتكزات فكرية واهية ومغلوطة، عبر تسويق الترسانة الإعلامية الصهيونية والغربية. وجاء “7 أكتوبر” (2023) ليكشف منعطفاً تاريخياً خطيراً تمثّل في حرب إبادة ممنهجة وغير مسبوقة ضدّ غزّة، أعادت تعريف حدود العنف في الصراع الإسرائيلي فلسطينياً وإقليمياً. لم يبق هذا التحوّل محصوراً في دائرة المواجهة المباشرة، بل انعكس أيضاً في الداخل الصهيوني نفسه، فاهتزّت بنية مؤسّساته السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والمجتمعية، ما فرض إعادة صياغة السرديات الداخلية والخارجية لهذا الكيان، ليس في المحيطين العربي والإسلامي بل أيضاً على مستوى المؤسّسات الغربية النخبوية والفكرية والإعلامية، وبعض الأطياف السياسية.

وتحاول هذه القراءة الوقوف على أهم محدّدات انكشاف السرديات الصهيونية داخلياً وخارجياً، فقد تلاشت السردية الغربية حول “معاداة السامية”، الممتدّة من أكثر من سبعة عقود غطاءً أخلاقياً وهمياً للكيان الصهيوني، فبعد حرب الإبادة المرئية وغير المسبوقة أعادت كثير من المؤسّسات النخبوية والإعلامية مراجعتها لهذه اللبنة الأخلاقية والسياسية المغلوطة.

وتآكلت السردية الرائجة إقليمياً ودولياً حول ديمقراطية هذا الكيان بسلوكيات بنيامين نتنياهو الشمولية، بتصفية الفواعل في المشهد الصهيوني بتعيين قادة المؤسّسات العسكرية والأمنية على أساس الولاءات لا الكفاءات، وانطلاقاً من انسجام المشرب الصهيوني اليميني المتطرّف على عكس النهج الليبيرالي المعتاد. فلقد عمد نتنياهو لتقويض مختلف المؤسّسات لصالح المؤسّسات التنفيذية بشكل ممنهج بتجاذباته مع المحكمة العليا قبل “طوفان الأقصى”، ما فرض تحوّلاً مفصلياً في البنية التنظيمية والسياسية والعسكرية، ينعكس وبشكل تراكمي ومتسارع على الكيان.

تلاشت فكرة التعايش والتطبيع مع الكيان الصهيوني المروّجة من عديد من النخب العربية

كما تلاشت فكرة التعايش والتطبيع مع هذا الكيان المروّجة من عديد من النخب العربية، وما تصريحات نتنياهو حول إسرائيل الكبرى، وعدوانه على العواصم العربية: بيروت ودمشق وصنعاء والدوحة، إلا شواهد تفنّد هذه السردية. أيضاً تراجعت الصورة النمطية الوهمية للجيش الصهيوني باعتباره الأقوى في الشرق الأوسط، فـ”7 أكتوبر”، وما تبعه من مقاومة إعجازية، وبأقلّ الإمكانات وفي أسوأ الظروف، وحرب 12 يوماً مع إيران، أظهرتا هشاشته ووهنه.

تراجعت السردية الداخلية: “الكيان أأمن مكان لليهود”، وهي مرتكز اعتمدت عليه بواكير الصهيونية للنشأة والقوة، إلا أن “7 أكتوبر”، وباعتباره زلزالاً ميدانياً تحرّكت من خلاله كرة الثلج على المستوى الإقليمي والدولي، انعكس في الهجرة العكسية، فكان أكثر مسبّبات الخطر الوجودي أهمية، وهذا ما اعتبره عبد الوهاب المسيري “خللاً بنيوياً لهذا الكيان من خلال إشكالية التسكين والتوطين”، فسلوكات الحكومة الصهيونية المتطرّفة فرضت افتراقاً بين الدولة وسردياتها الداخلية، وهو ما عدّه إيمانويل تود “أهم محدّدات نهاية القوة”.

لقد تعرّى البعد الأخلاقي والإنساني لليبيرالية الغربية بدعمها هذا الكيان بشكل غير محدود، فحرب الإبادة كشفت جوهر هذا الطرح الزائف، وتناقضاً بنيوياً صارخاً بين الخطاب والممارسة داخل هذا المنتظم، ويبرُز حجم الانفصال بين ما يعلنه من مبادئ وما يترجمه فعلياً في أرض الواقع. كما سقط ما بقي من هيبة (وجدّية) للمؤسسات الدولية، السياسية والجنائية، لعدم قدرتها على وقف الحرب ومحاسبة نتنياهو، والضالعين في المشاهد المروّعة المرئية من غزّة، التي أفزعت العالم، وهو ما أظهر خللاً في الهيكلية التنظيمية ومحدودية القدرة التنفيذية لهيئات وُجدت لتكون أداةً لأميركا وللإمبريالية.

كلما امتدّت الحرب زمنياً، تآكل المعنى الداخلي والمشروعية الخارجية والقيمة الاستراتيجية للكيان لدى أميركا والغرب

أخيراً، يمكن القول إن إنجاز المقاومة الفلسطينية في “7 أكتوبر” تجاوز قتل وأسر جنود صهاينة إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، بدحر السردية الصهيونية الداخلية والخارجية، ما عكس حالة عطب نخاعي لهذا الكيان، فأرنولد توينبي يعتبر أن “القوة تبدأ باستجابة لتحدٍّ، ثمّ تنحرف حين تنسى أسباب نشأتها، وتنهار حين تمعن في قمع التحدّيات الجديدة”، فالحكومة الصهيونية الحالية، ومن أجل بقائها السياسي، تعمد إلى قمع التحدّيات الداخلية برفضها أطروحات النخب الأمنية والفكرية والسياسية والعسكرية، وتجاوزها حالة الإجماع الشعبي لوقف الحرب وإبرام الصفقة.

ويمكن القول إن “طوفان الأقصى” استطاع كشف السرديات الصهيونية متعدّدة الطبقات، وأدخل الاحتلال في نفق معاندة التاريخ، الذي يحمل قوانين غير خطّية، ولكنها ثابتة، وهو ما يؤكّد أن يحيى السنوار في قبره انتصر على نتنياهو في قصره، وغزة تحاصر الكيان الصهيونية أخلاقياً وإنسانياً وسياسياً، وكلما امتدّت الحرب زمنياً، تآكل المعنى الداخلي والمشروعية الخارجية والقيمة الاستراتيجية للكيان لدى أميركا والغرب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى