
ماذا ينتظر العالم بشأن الجاري في غزّة؟ لماذا يتردّد في التحرّك الجدّي لوضع حدٍّ لأسوأ حرب إبادةٍ جماعيةٍ وأخطر تطهير عرقي تتغيّا قوات الاحتلال الإسرائيلية تهجيراً قسرياً لأزيد من مليونين من السكان في إطار مخطّط منسّق مع الإدارة الأميركية، غرضه إفراغ الأرض من سكانها وأهلها؟ تظهر المشاهد القيامية القادمة من غزّة أن مدن قطاع غزّة ومخيّماته تحوّلت إلى أطلال وأنقاض، بعد أن خضعت لعملية تدمير ومحو ممنهجين. صار الموت سيد الموقف. لا ماء وغذاء ولا غطاء ولا مقومات حياة، فبعد كل العمليات العسكرية المتوحشة والهمجية حوالي عامين، وبعد تنفيذ أكثر من خطّة عسكرية، بما في ذلك عملية عربات جدعون 2 ذات الحمولة الدينية التوراتية الانتقامية، لم تنتج قوات الاحتلال سوى القتل والتدمير والمآسي. حيث أرغمت آلاف السكان على النزوح المستمر، والسير نحو المجهول في شروطٍ غير إنسانية ومهينة بكل المقاييس. وفي كل مرّة تتحدّث عن القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس. صرّح جيش الاحتلال، في أكثر من مناسبة، أنه قضى على المقاومة في غزّة. إذن، ماذا تريد الحكومة الفاشية التي يقودها مجرم الحرب نتنياهو؟ وماذا بقي في غزّة لتدمّره قوات الاحتلال التي نهجت، عن قصد وسبق إصرار، سياسة الأرض المحروقة، وشرعت، قبل أيام، في تدمير ما تبقى من أبراج سكنية ومعالم الحياة لإتمام المهمة؟
أهداف نتنياهو وحلفائه من اليمين الصهيوني المتطرف أبعد من القضاء على حركة حماس، واستعادة الأسرى الإسرائيليين الذين في حوزتها، وإلا لماذا لجأ نتنياهو، في شتى مراحل المفاوضات التي كانت تتم بوساطة قطرية مصرية أميركية، إلى نسف الجهود التي كانت تبذل قصد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، يفضي إلى الإفراج عن هؤلاء، وتحرير مئات الأسرى الفلسطينيين؟ بل يمكن الإشارة هنا من دون تردّد، إلى أن الكيفية التي كان يدير بها مبعوث البيت الأبيض، ستيف ويتكوف، المفاوضات والمقترحات والتعديلات التي كان يتقدّم بها، شكلت جزءاً من سيناريو مدروس ومفكّر فيه ومنسّق. رغم أن الرجل سبق له أن أكّد، في مناسباتٍ كثيرة، على ضرورة عودة المحتجزين الإسرائيليين، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين وإعادة بناء غزّة. وكادت الأمور تفضي إلى تقدّم ملموس نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي، حيث وافقت “حماس” والفصائل الفلسطينية على اقتراح هدنة 60 يوماً، يتم في غضونها تفاوض يفضي إلى وقفٍ نهائيٍّ للحرب، وهو اقتراح كان يتطابق، إلى حد بعيد، مع خطّة طرحها ويتكوف، ووافقت عليها إسرائيل.
ما دامت إسرائيل خارج نطاق العقاب والمساءلة والمتابعة القضائية، فهي في مخيلة الغرب رديفٌ للضحية وجيشها أخلاقي بامتياز
وحسب الوسطاء، كان هذا العرض الأفضل لإنقاذ أرواح المدنيين، غير أن ردّ إسرائيل على المقترح لم يتم. وهكذا يبدو أن نتنياهو كان يخفي مخطّطا آخر. ولم يكن ما كان يظهره للرأي العام الدولي سوى خديعة قصد التضليل. وهذا ما أكّدته الوقائع وتطورات الأحداث يوم 9 سبتمبر/ أيلول الحالي، عندما تجرّأت إسرائيل على استهداف الدوحة، بذريعة تصفية قادة حركة حماس، لتقوّض بغاراتها جهود الوساطة والمساعي الدبلوماسية، وتصيب مسألة المصداقية والثقة في مقتل، حيث تجاوزت دولة الاحتلال كل القوانين الدولية والمواثيق الأخلاقية والاعتبارات السياسية والاستراتيجية. وهي تدرك جيداً أن وساطة قطر بين الكيان وحركة حماس كانت تجري بموافقة جميع القوى الدولية، بما فيها الولايات المتحدة الحليف الإستراتيجي لقطر. وفي وقت كان من المفروض أن تمارس الإدارة الأميركية ضغوطها على حليفتها وشريكها الاستراتيجي إسرائيل، وفي خطوة غير مفهومة تحمل قدراً كبيراً من الاستفزاز، استخدمت الولايات المتحدة، 18 سبتمبر/ أيلول الجاري، حق النقض (الفيتو)، حيث أسقطت مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزّة والإفراج عن المحتجزين، علما أن هذا المشروع الذي تقدّمت به الدول العشر غير دائمة العضوية، حصل على دعم 14 من الدول الأعضاء، بما فيها الدول العشر المنتخبة عامين. وعبّر المشروع عن القلق إزاء تفاقم معاناة المدنيين، في ظل تفشّي المجاعة وتوسّع الهجوم الإسرائيلي في مدينة غزّة. وطالب إسرائيل برفع جميع القيود المفروضة على إيصال المساعدات إلى القطاع. ولم تشعر ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مورغان أورتاغوس، في أثناء جلسة التصويت، بأي حرج أخلاقي أو سياسي، حيث قالت بمنتهى الصفاقة إن بلادها ترفض المشروع المقدم لمجلس الأمن بشأن الوضع في غزّة، مبرّرة موقفها بأنه يساوي بين إسرائيل وحركة حماس، ولا يعترف بالواقع على الأرض، وفق تعبيرها. وأضافت أن إسرائيل قبلت بشروط إنهاء الحرب، وأن “حماس” هي التي ترفض ذلك، ويجب أن تفرج عن المحتجزين لديها و”تستسلم فوراً”.
المؤلم في هذا الموقف الذي يكشف تواطؤاً صريحاً للإدارة الأميركية مع الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزّة والضفة الغربية هو فشل مجلس الأمن مرّة أخرى في وقف حرب الإبادة، فإسرائيل تتمتّع بحماية خاصة، وبسبب الانحياز الدولي تجاهها، فهي يقتل الفلسطينيين يوميّاً، ولا أحد يحرك ساكناً أو يحاسبها. ووفق عدة معطيات ومؤشّرات، باتت الإدارة الأميركية، خصوصاً في الولاية الثانية لدونالد ترامب، تتصرّف كدركي عالمي، له كامل الصلاحيات، وقوة إمبريالية استعمارية لا تأبه بالقانون الدولي ولا بالمنظمات الأممية، وتعمل جاهدة إلى إشعال الحرب وتعميمها في أكثر من بلد، عبر وكيلها إسرائيل. وتبعا لذلك، انخرطت في تلغيم المنطقة، وحشد قواتها وبوارجها وحاملاتها واستنفار إعلامها. كان من المفروض أن تتصرّف أميركا بوصفها دولة عاقلة، بما يسحب عليها، فعلا، صفة القوة العظمى. وأن تعمل على تهدئة الأجواء وخفض التصعيد. ولعب دور الوسيط النزيه والراعي المنصف، الذي يقف إلى جانب المظلوم، وكل من هضمت حقوقه. لكن الإدارة الأميركية في ظل قيادة متماهية مع الصهيونية المتطرّفة، ومتلاحمة مع كل مشاريع نتنياهو وحكومته الفاشية، اختارت وجهة أخرى، إضفاء الشرعية على كل جرائم قوات الاحتلال، بما في ذلك تبرير الإبادة الجماعية، وإشهار ورقة التهديد في وجه أي طرفٍ يريد الاعتداء على إسرائيل حليفها الاستراتيجي. إننا نعيش زمناً غريباً مليئاً بالمفارقات والتناقضات، ومختلف أشكال النفاق. زمن تحول فيه نتنياهو إلى سوبرمان فوق القوانين والمؤسّسات والدول، لا قوة في العالم تستطيع كبح جنونه، والحدّ من نشوته الجارفة، بسبب اقتناعه بأنه الأقوى في الشرق الأوسط، والأقدر على الردع والهجوم والتوسّع، وارتكاب الحماقات وإشعال الحروب وانتهاك سيادة الدول، غير مبال بالعواقب والنتائج، ما دامت إسرائيل خارج نطاق العقاب والمساءلة والمتابعة القضائية، فهي في مخيلة الغرب رديفٌ للضحية وجيشها أخلاقي بامتياز، وهي الدولة التي لها حق الدفاع عن النفس، كيفما كانت طبيعة الأسباب التي تتذرّع بها.
باتت الإدارة الأميركية، خصوصاً في الولاية الثانية لترامب، تتصرّف على أنها دركي عالمي، له كامل الصلاحيات، وقوة إمبريالية استعمارية لا تأبه بالقانون الدولي
ألم يتحدّ نتنياهو العالم في قلب الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما وجّه الوعيد إلى كل أعدائه، وتحدّاهم بكل ثقة في النفس، وهو المتأكد أن قواته الجوية ومخابراته تستطيع أن تصل إلى أي نقطة في العالم، لأخذ القصاص ممن سيجرؤ على إسرائيل هبة الله، والمفوّضة من السماء لـ”تنقية” الأرض من المخربين. لكن، ورفعا لكل لبس، أميركا وراء كل هذه الحروب، وهي التي تحمي إسرائيل وتدعمها وتسلحها وتحرّضها، وتمولها وتضمن لها كل أنواع الغطاء، بما في ذلك استعمال سلاح “فيتو” لإجهاض أي قرار ملزم ومدين وشاجب لإسرائيل. إننا أمام منعطف جيو- استراتجي خطير، يؤكّد أن الإدارة الأميركية بتنسيق كامل مع دولة الاحتلال، تعيد تشكيل المنطقة وهيكلتها وهندستها، بما يضمن تفوّق إسرائيل المطلق. وتحويلها إلى الدولة أو القوة المحورية، والقاعدة المحروسة والمضمونة، والمؤهلة لتمثيل الغرب وحماية مصالحه، وتمثل قيمه على المستويين، الثقافي والسياسي.
يحدث هذا، في وقتٍ تخلد فيه الأمم المتحدة الذكرى 80 لقيامها. ذكرى تأتي بعيداً عن تحقيق الطموحات التي حفّزت على إنشاء المنتظم الدولي، غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتنمية ما يسمّيه الفيلسوف الألماني، إمانويل كانط، وتعزيزه بالسلام الأبدي، فالعالم، وبيقين تام، بعيد كل البعد عن الأهداف المثالية والنبيلة التي وجدت الأمم المتحدة من أجلها. الاحتفال بمرور 80 عاماً على حدث كبير شكّل تحوّلاً أساسيا في العلاقات الدولية وحفظ السلام، يتزامن مع أكبر عملية عسكرية همجية أطلقها جيش الاحتلال في إطار هجوم برّي واسع على قطاع غزّة. كما يتزامن مع تقرير أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، خلال انعقاد الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، والذي أكد ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي إبادة جماعية في قطاع غزّة. ودعا جميع الدول إلى الوفاء بالتزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي، لإنهاء هذه الإبادة ومعاقبة المسؤولين عنها. وخلص تقرير اللجنة إلى أن إسرائيل ارتكبت في غزة أربعةً من أصل خمسة أفعال إبادة جماعية محدّدة في “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، القتل، وإلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم، ومفاقمة متعمّدة للظروف المعيشية للفلسطينيين إلى حد تدميرهم كليا أو جزئيا، وتطبيق إجراءات تهدف إلى منع الإنجاب. كما أكّد التقرير أن تصريحات المسؤولين المدنيين والعسكريين الإسرائيليين، بالإضافة إلى ممارسات قوات الأمن الإسرائيلية، “تُثبت أن أعمال الإبادة الجماعية هذه ارتُكبت بقصد تدمير الفلسطينيين في قطاع غزّة كلياً أو جزئياً”.
أهداف نتنياهو وحلفائه من اليمين الصهيوني المتطرّف أبعد من القضاء على حماس، واستعادة الأسرى الإسرائيليين الذين في حوزتها
رغم كل هذه الأدلة المادية القطعية، لا شيء يدلّ على أن بمقدور الأمم المتحدة، وقف توحش نتنياهو المدعوم كليا من الولايات المتحدة. وهذا ما جعله لا يتردّد في الذهاب بعيداً في عناده، عندما صرّح في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري “نلتزم بوعدنا. لن تكون هناك دولة فلسطينية. هذا المكان ملك لنا”. هذا الموقف الأرعن الذي عبر عنه خلال زيارته مستوطنة معاليه أدوميم قرب القدس، يأتي عشية النقاش الذي احتضنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص حل الدولتين، حيث أعلنت فرنسا وعدة دول غربية اعترافها بقيام دولة فلسطينية. ولكن الحكومة الإسرائيلية تعمل على الأرض بشكلٍ غير مسبوق على دفن حل الدولتين، بالتدمير الممنهج لقطاع غزّة وإبادة سكانها وتهجيرهم، بغرض إخلاء المدينة قبل 7 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول). ويأمل نتنياهو أن يكون هذا التاريخ يوماً لتتويجه بطلا قوميا لم يسبق له مثيل. وبموازاة ذلك، تعمل الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة على إغراق الضفة الغربية بعشرات المستوطنات. وهنا يطرح السؤال المنطقي والبديهي عمّا سينفع إعلان الاعتراف بدولة فلسطينية إذا لم تكن لها أرض، وهي مقوّم أساسي وسيادي. المخزي، في هذا السياق، انصهار الإدارة الأميركية وتماهيها مع ممارسات الحكومة الإسرائيلية لإجهاض هذا الحدث التاريخي المفروض أن يعيد بعض البهاء إلى الأمم المتحدة. ويجسّد قرار منع منح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس ومسؤولين آخرين تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأميركية للمشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة أقوى برهانٍ على انحياز الموقف الأميركي وانخراطه في مؤامراتٍ مكشوفةٍ لصالح نسف السلام، وإهدار فرص التوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية جوهر الصراع ومصدر كل الأزمات في الشرق الأوسط.
ويلعب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الدور المحوري في زعزعة أسس منظمة دولية تعاني أصلاً من هشاشة لم تسجل من قبل، بسبب بنيتها البيروقراطية ومشكلات التمويل ومعضلة حق الفيتو الذي يساهم في شلّ أدوارها وتقليص تداخلاتها. وضاعفت الإدارة الأميركية من الأزمة المالية للأمم المتحدة. وهذا ما يطرح إصلاحاً في العمق لمختلف مؤسّساتها، إذا أرادت أن تحافظ على مصداقيتها، فالمنظمة أصبحت رهينة للحسابات الجيوسياسية، وللفيتو الأميركي الذي استعملته واشنطن ضد مختلف التوصيات للحيلولة دون إجبار إسرائيل على احترام الشرعية الدولية.
المصدر: العربي الجديد
الحرب المتوحشة القذرة التي تشنها قوات الإحتلال الصهيوني منذ عامين على شعبنا في غزة، كشفت نفاق وعهر سياسي بإمتياز من المجتمع الدولي بقيادة الإدارة الأمريكية، لماذا “إسرائيل” خارج نطاق العقاب والمساءلة والمتابعة القضائية؟ هل في مخيلة الغرب رديفٌ للضحية وإن جيشها أخلاقي ؟ محكمة العدل الدولية ومنظمات الأمم المتحدة وشعوب العالم تتظاهر لدعم شعب غزة ووقف المجزرة.