جهود داخلية وصعوبات خارجية.. أي مستقبل لإعادة الإعمار في سوريا؟

باسل المحمد

رغم مرور نحو عشرة أشهر على سقوط النظام المخلوع، لا يزال ملف إعادة إعمار سوريا عالقاً بين الحسابات الدولية المعقدة، وغياب أي مؤتمر دولي جامع يحدد بوضوح آليات التمويل وشروطه

هذا التعطيل جعل من الداخل السوري ساحة للبحث عن بدائل، حيث أخذت المبادرات الوطنية تتصدر المشهد عبر إطلاق صندوق التنمية السوري، وتصاعد الحملات الأهلية، إلى جانب أشكال متعددة من التكافل المجتمعي.

وباتت هذه الجهود اليوم أشبه بمحاولة لسد فجوة التمويل وإيجاد حلول عاجلة لأكثر الملفات إلحاحاً، لكنها في الوقت نفسه تثير نقاشاً واسعاً: هل يمكن الاعتماد على الموارد الوطنية وحدها لتشكيل مسار حقيقي لإعادة الإعمار في بلد مثقل بسنوات الحرب والدمار، أم أن هذه المبادرات ستظل محدودة الأثر ريثما يتدخل المجتمع الدولي ليضع ثقله في هذه العملية؟

جهود حكومية وأهلية تلتقي على طريق الإعمار

على الرغم من إدراك الحكومة السورية لحجم الحاجة إلى دعم خارجي ضخم لإطلاق عملية إعادة الإعمار، فإنها لم تقف مكتوفة الأيدي بانتظار استجابة المجتمع الدولي، بل بادرت إلى تحريك عجلة الداخل بما يتوافر من إمكانات محدودة.

ففي الرابع من أيلول الجاري، أعلن الرئيس أحمد الشرع تأسيس صندوق التنمية السوري باعتباره أداة وطنية رئيسية لإعادة البناء، خلال فعالية أقيمت في قلعة دمشق، داعياً المواطنين ورجال الأعمال إلى المساهمة فيه. وقد تجاوزت التبرعات للصندوق 60 مليون دولار خلال الساعات الأولى من إطلاقه، ما عُدّ مؤشراً على تجاوب لافت مع المبادرة.

إلى جانب هذه الخطوة، تعمل الحكومة على تشجيع الاستثمار المحلي عبر فعاليات اقتصادية، أبرزها المعرض الدولي لإعادة إعمار سوريا (إعمار)، المقرر عقده بين 29 تشرين الأول و1 تشرين الثاني المقبلين، بمشاركة واسعة من وزارات الاقتصاد والصناعة والطاقة والإسكان.

وبالتوازي مع المسار الحكومي، صعدت موجة من الحملات الأهلية في مختلف المحافظات، جسدت روح التكافل المجتمعي. ففي حمص، جمعت حملة “أربعاء حمص” أكثر من 13 مليون دولار، تلتها حملة “أبشري يا حوران” بدرعا التي تجاوزت 37 مليون دولار في يومها الثاني لدعم التعليم والصحة والبنى التحتية. وفي دير الزور، حققت حملة “دير العز” أكثر من 35 مليون دولار.

كما جمعت حملة “ريفنا بيستاهل” لدعم ريف دمشق أكثر من 76 مليون دولار، في حين تستعد إدلب لإطلاق حملة “الوفاء لإدلب” أواخر أيلول الجاري لتأهيل مرافقها المدمرة.

هذه الحملات ركزت على تمويل مشاريع الصحة والتعليم والمياه والسكن وإعادة تأهيل البنى المتضررة، عبر قنوات تبرع متعددة من صناديق ميدانية إلى حسابات مصرفية، ما جعلها منصة وطنية كبرى لإعادة البناء. وفي خطوة تطبيقية، دشنت جمعية البنيان المرصوص أولى مشاريعها في حي بابا عمرو بحمص عبر تقديم دعم نقدي لأسر الشهداء وحفر بئر مياه كحل إسعافي.

المبادرات الوطنية.. أمام مليارات إعادة الإعمار

رغم الزخم الذي تحققه المبادرات الوطنية والحملات الأهلية، فإن الأرقام تكشف عن فجوة يصعب ردمها من الداخل وحده. فوفق تقديرات الأمم المتحدة، تتراوح كلفة إعادة الإعمار في سوريا بين 250 و400 مليار دولار، في حين يذهب منتدى الشؤون الخارجية (FAF) إلى أن بعض التقييمات ترفع الكلفة إلى تريليون دولار، مع الإشارة إلى أن قطاع الإسكان وحده يشكّل نحو 60% من الإجمالي.

يرى الباحث في الحوكمة والاقتصاد السياسي براء خرفان أن هذه الجهود تمثّل انطلاقة مهمة، لكنها غير كافية بمفردها في ظل الضائقة الاقتصادية. فهي، برأيه، تسهم في تلبية الاحتياجات العاجلة عبر حشد أبناء الداخل والمهجر لمساندة محافظاتهم وتحسين الواقع المعيشي للمجتمعات المحليّة بشكل مؤقت.

ويُنوه خرفان في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بأن هذه الحملات، “بحكم طابعها المؤقت ومحدودية مواردها، لا تكفي على المدى الطويل لتلبية متطلبات عملية إعادة الإعمار”.

ويوافقه في هذا الرأي الباحث الاقتصادي مناف قومان، الذي يعتبر أن الحملات الشعبية دليل على مرونة المجتمع المحلي وقدرته على التكيف، وأنها برهنت أن السوريين ليسوا مجرد متلقين للمساعدات، بل طرف فاعل في مسار التعافي.

لكن قومان يستدرك في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بالقول إن هذه المبادرات تظل أقرب إلى “إسعاف أولي”، يوفّر ترميم أو بناء مدرسة أو مشفى أو خط كهرباء، من دون أن يشكّل خطة شاملة لإعادة الإعمار.

وفي السياق نفسه، يشير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية في دراسة حول إعادة الإعمار في سوريا إلى أن نجاح هذه الحملات على المدى الطويل مرهون بتجاوز جملة من التحديات، أولها ضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة مع ارتفاع مبالغ التبرعات، بما يحفظ ثقة المتبرعين ويضمن وصول الأموال إلى أهدافها المعلنة.

أما التحدي الآخر ـ بحسب المركز ـ فهو الاستمرارية، إذ قد تتراجع الحماسة الشعبية ما لم تتحول المبادرات إلى أطر مؤسسية أكثر ثباتاً، مثل صناديق دائمة أو جمعيات تنموية محلية.

تفضيل الحلول المحلية على الاستدانة الخارجية

لا تميل الحكومة السورية إلى خيار الاستدانة أو انتظار القروض الدولية، إذ يرى مراقبون أن الحكومة تفضّل الاعتماد على مسارات داخلية تعزز قدرات الاقتصاد المحلي وتُبقي القرار الوطني مستقلاً.

وفي مقابلة مع مجلة فوربس الشرق الأوسط، أوضح وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار أن النموذج الأنسب لسوريا ليس خطة مركزية كبرى على غرار “خطة مارشال”، بل مسارات متفرقة تتناسب مع واقع بلد ما تزال أكثر من 60% من مساحته بحاجة إلى إعادة بناء.

وأكد الشعار أن سوريا تقف اليوم على “عتبة اقتصاد جديد وتاريخي”، يقوم على الشراكة بين الدولة والمواطن، وينفتح على السوق الحر مع تدخل إيجابي للدولة لتصحيح التشوهات، مشدداً على ضرورة العودة إلى “الخلية الاقتصادية الأولى”، أي المواطن المنتج، عبر تمكينه في الورشات الصغيرة والأعمال الصناعية والتجارية والزراعية.

وفي السياق ذاته، يوضح الباحث رشيد حوراني أن الاعتماد على القروض يقيّد الدول سياسياً واقتصادياً، مستشهداً بالحالة التركية التي تعاني من اهتزاز اقتصادي بسبب حجم الاستدانة.

ويرى حوراني في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن تدوير رأس المال المحلي وتنمية قطاعات أساسية مثل الزراعة يمكن أن يشكّل مخرجاً أكثر أماناً لسوريا، معتبراً أن مبادرات مثل صندوق التنمية السوري والحملات الأهلية هي دعوة من الدولة للمواطنين للمشاركة وعدم الركون إلى الخارج، بما يسهم في تحريك السوق الداخلية وتعزيز المناعة الوطنية.

إلى جانب ذلك، تعمل الحكومة على فتح الباب للاستثمارات الخارجية، وخاصة الخليجية منها، كمشاريع الاستثمار السعودية والقطرية، التي تسهم في تحريك الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل وضخ النقد الأجنبي في البلاد.

وهذا ما أكده الرئيس أحمد الشرع في مقابلة مع الإخبارية السورية حين قال: “نحن نبدأ بالمتاح وحسب الأولويات، ومع هذا لم يكن المتاح قليلاً”. وأضاف: “لا نريد لسوريا أن تعيش على المساعدات أو القروض المسيسة، والبديل هو فتح البلاد للاستثمار”.

موانع الدعم الدولي.. شروط سياسية تعرقل الإعمار

رغم كثرة الوعود منذ بداية تحرير سوريا، ما يزال الدعم الدولي لإعادة الإعمار محدوداً، ومشروطاً بسلسلة من المتطلبات السياسية والأمنية.

ويرى مراقبون أن مسألة الإعمار لا تنفصل عن الحسابات السياسية الدقيقة، إذ تشترط الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إصلاحات واضحة مثل الانتقال السياسي، واحترام حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وتقليص النفوذ الإيراني.

وإلى جانب ذلك، يبقى الوضع الميداني معقداً، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على نحو 35% من البلاد، وسط جمود في تطبيق اتفاق العاشر من آذار، في حين لا تزال السويداء خارج سلطة الدولة السورية، رغم الاتفاق الدولي الذي تم برعاية أمريكية ـ أردنية في 16 أيلول الجاري.

ورغم التغيرات المتسارعة بعد سقوط النظام، تواصل الدول الغربية ربط أي مساهمة في إعادة الإعمار بتنفيذ هذه الشروط. وتشمل المطالب أيضاً إشراك مختلف الطوائف والأقليات في الحكم، واتخاذ إجراءات أمنية مرتبطة بملف المقاتلين الأجانب وتهريب الكبتاغون.

وقد أدى هذا الحذر والاشتراط الدولي إلى وجود استجابة محدودة لعملية إعادة الإعمار في سوريا. ففي نيسان الماضي، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حزمة دعم بقيمة 1.3 مليار دولار فقط على ثلاث سنوات، تركز على إعادة تأهيل البنية التحتية والتحول الرقمي وريادة الأعمال، وهي مبادرة طموحة لكنها ضئيلة أمام حجم الدمار.

كما حاول مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين في آذار 2025، بقيادة الاتحاد الأوروبي، حشد الدعم المالي والسياسي لسوريا، بمشاركة وزير الخارجية أسعد الشيباني الذي دعا الدول إلى المساهمة الفاعلة في مشاريع الإعمار. إلا أن النتائج جاءت دون التوقعات، إذ بلغت التبرعات 5.8 مليارات يورو مقارنة بـ 7.5 مليارات يورو في العام السابق، ما يعكس تراجعاً في مستوى الالتزام الدولي.

ولم يخلُ البيان الختامي للمؤتمر من الرسائل السياسية، إذ أكد أن أي دعم أوروبي لإعادة الإعمار سيبقى مشروطاً بـ “حل سياسي شامل” يضمن تطلعات السوريين ويحفظ سيادة البلاد ووحدتها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى