
لا يقتصر فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك على أنه أول انتصار لسياسي أميركي من أصول مهاجرة ومسلمة، بزعامة أكبر المدن الأميركية، وأكثرها غِنًى، بل يتجاوز ذلك إلى أنه استفتاء جماهيري واضح على فشل نُخَب النيوليبرالية الاقتصادية والسياسية وإفلاسها، لصالح نموذجٍ اشتراكي يرفع شعارات العدالة الاجتماعية، وتقليص فجوة الدخل، وتعزيز تدخّل الدولة لصالح شبكتي رعاية وأمانٍ اجتماعيَّين.
ولفوز ممداني دلالاتٌ لافتة، كما يفرض تحدّياتٍ موازية في الوقت نفسه. فلم يكن هذا الانتصار التاريخي حدثاً خارج سياق التحوّلات؛ فمنذ مطلع الألفية الجديدة تعمّق الاستقطاب السياسي الأميركي مع تراجع شعبية الأحزاب التقليدية لصالح صعودٍ متزامنٍ لليمين الشعبوي، واليسار الاشتراكي بتعدّد تياراته. وقد شكّل هذا الاستقطاب تمظهراً جليّاً لفشل اقتصاد السوق في نسخته النيوليبرالية، وإفلاس الخطاب النيوليبرالي الذي تبنّته الأحزاب التقليدية في ملامسة هموم الناس ومخاوفهم، مع انحياز النُّخَب السياسية للوبيّات المال والأعمال. وقد تكبّدت الطبقات الأقلّ دخلاً كلفة هذا التوجّه عبر سياسات العولمة، وتقليص دور الدولة في شبكات الدعم الاجتماعي، بما أفضى إلى أكبر فجوة في مستويات الدخل منذ الحرب العالمية الثانية، وفق دراساتٍ أمبيريقية، وثّقها توماس بيكيتي في كتابه الشهير “رأس المال”.
يشي فوز زهران ممداني بمدينة بضخامة نيويورك بتحوّلٍ شعبي جوهري في النظرة إلى إسرائيل
ليس صعود اليمين وسيطرته في الغرب عموماً قدراً محتوماً، فإزاءه يقف تحالفٌ واسعٌ، قادرٌ على موازنته إذا أحسن التنظيم. أدرك ممداني هذه الحقيقة، فاختار استراتيجية بسيطة وفعّالة: تجنّب الانزلاق إلى فخّ الحروب الثقافية وسياسات الهُويَّة، والتحدّث بدلاً من ذلك بلغة عملية تقترح خطواتٍ وبرامج تُلامس احتياجات الناس. لذلك ركّز في دعم متاجر بقالة تُدار من قِبل المدينة لمكافحة استغلال الشركات، وتجميد الإيجارات، ومجانيّة النقل العام، والأهمّ إعادة توزيع الثروة بفرض ضرائب أعلى على الأثرياء. وقد لخّص هذه المقاربة في مقابلة إعلامية قائلاً: “كثيراً ما يتحدّث الديمقراطيون عن الديمقراطية، ولكن إذا لم يكن لديك ما يكفي من المال للعيش في مدينتك، فلن يتبقّى لديك الوقت للاهتمام بالقيم. قال فيوريلو لا غوارديا (عمدة نيويورك الأسبق) إنه لا يمكنك أن تُبشّر بالحكم الذاتي والحرية لشعبٍ جائع”.
وقد احتلّ خطابُ مناصرة فلسطين موقعاً مركزياً في برنامج ممداني من دون أن يطغى على أجندته الاجتماعية. وبالرغم من محاولات قوى اللوبي الصهيوني والمالي جرّه إلى معارك جانبيّة تُشتّت الانتباه عن برنامجه الأساسي، فإن فوزه في مدينة بضخامة نيويورك يشي بتحوّلٍ شعبي جوهري في النظرة إلى إسرائيل. صحيحٌ أن انتخابه ليس استفتاءً مباشراً على معارضة إسرائيل أو تأييدها، فالناخبون الذين صوّتوا له يشكّلون تحالفاً واسعاً من الأميركيين البيض ومختلف الأقليات، غير أنّ انتقاد إسرائيل والدعوة إلى اعتقال نتنياهو كانا علامة بارزة في خطابه الانتخابي، وقد حشدت اللوبيّات الصهيونية المالَ والإعلام لإفشال فوزه. هكذا يمثّل صعود ممداني مؤشّراً على خسائر إسرائيل المتوالية في معركة الرأي العام؛ ولم يعد نقدُها والتساؤلُ عن جدوى المعاملة التفضيلية التي تحظى بها من واشنطن حكراً على اليسار، بل باتت الأصواتُ المنتقدة أعلى وأكثر صخباً داخل معسكر اليمين الشعبوي أيضاً، ولا سيّما في القاعدة الصلبة لحركة “ماغا” المؤيدة لترامب.
وقد برزت الفاعليّة الهائلة لاستراتيجية الحشد الرقمي التي اعتمدها ممداني، فقد وظّف الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أقصى مدى، مقدّماً محتوى بصرياً أصيلاً يخاطب سكّان نيويورك على اختلاف خلفيّاتهم وانتماءاتهم الطبقيّة. وبذلك تفوّق على منافسيه، رغم إمكاناتهم الماليّة الكبيرة، من دون اعتمادٍ يُذكر على الإعلام التقليدي من تلفزيون وصحف، الذي كان في معظمه معادياً أو غير متحمّس. وقد انعكست هذه الاستراتيجية في أرقام المشاركة؛ إذ شارك في الانتخابات مليونا صوت، وهو أكبر عددٍ في انتخاباتٍ بلديّة منذ 1969، ما يؤشّر إلى نجاحٍ في حشد فئاتٍ كانت تقليدياً أقلّ اهتماماً بالسياسة، وفي رأسها الشباب.
ليس الطريق أمام ممداني مفروشاً بالورود، فهناك تحدّياتٌ ضخمة، ليس أقلّها قيادة أكبر قوّة شرطة وأكبر وزارة تعليم بلديّة في الولايات المتحدة، وإدارة ميزانيّة تتجاوز 115 مليار دولار في ظروفٍ اقتصاديّة دقيقة. والاختبار الأهمّ أنّ إدارة مدينة بهذا الحجم ستكون امتحاناً عمليّاً لبرامج التيار الاشتراكي، الساعي إلى تصحيح أخطاء السياسات الاقتصاديّة في معقل رأسماليّة “وول ستريت”. ومن شأن نجاحه أن يمنح هذا التيار دفعة قويّة في المدن الأميركيّة الكبرى متعدّدة الأعراق؛ أمّا تعثّره فسيصُبّ في مصلحة الخطاب المناهض له داخل اليمين الشعبوي.
يرمز فوز ممداني إلى محاولة جادّة لإصلاح اختلالٍ راكمته السياسات النيوليبرالية عقوداً
يُصرّ ممداني على تعريف المعركة ضدّ الاستبداد بأنها معركة على قُدرة الديمقراطيّة، أو عجزها عن “تلبية احتياجات الطبقة العاملة”. وهذا تعريفٌ ذو حدّين؛ إذ قد يواجه صعوباتٍ جمّة في وجود ترامب الذي كرّس ولايته الثانية للانتقام من خصومه وتفكيك مؤسّساتٍ يراها رعت “سياساتٍ يساريّة”، وسعى فيما يتجاوز الداخل الأميركي، إلى لعب دور قاطرة لليمين عالمياً، على غرار دعمه بحزمة ماليّة كبيرة الرئيس الأرجنتيني الشعبوي خافيير ميلي، ودعمه المتواصل لفيكتور أوربان، وجورجيا ميلوني، ومارين لوبان، وغيرهم. ولم يخفِ ترامب عداءه ممداني، مهدّداً بقطع التمويل الفيدرالي الذي يبلغ 7.4 مليارات دولار (نحو 6.4% من إجمالي إنفاق المدينة)، وهو تحدٍّ ثقيلٌ في لحظة اقتصاديّة حرجة.
في المحصّلة، ورغم تعقيد التحدّيات في عالمٍ يتزايد فيه الاستقطاب وتتعاظم فيه موجات اليمين والشوفينيّة القوميّة والأزمات الاقتصاديّة، يرمز فوز ممداني إلى محاولة جادّة لإصلاح اختلالٍ راكمته السياسات النيوليبرالية عقوداً: أن يستعيد السياسيون والحركات الاجتماعية وظيفتهم الأهم، تلبية الاحتياجات المعيشيّة للناس بكرامة ضمن منظومة العدالة والأخلاق. وسيظلّ التحدّي ومعيار النجاح هو القدرة على تحويل الشعارات والبرامج إلى نتائج ملموسة في حياة الناس، وإلا بقيت الشعارات مجرّد أحلام وأمنيات لا يدعمها الواقع.
المصدر: العربي الجديد



