
في حياتي رجالٌ كثيرون مرّوا كالعابرين، لكن قلّة فقط هم الذين أمسكوا بيدي وتركوا أثراً لا يُمحى. وأشهد أن محمد خليفة كان واحداً من هؤلاء القلائل الذين لا يشبهون أحداً. لقد مدّ يده إليّ في لحظة مفصلية من عمري، وعلّمني الألف باء في الكتابة السياسية، وفتح أمامي أبواب عالم لم أكن من قبل أعرف كيف أدخله. فبفضله صرت أكتب لا كهاوٍ يعبّر عن انفعالاته، بل كمن يرى السياسة التزاما ومسؤولية وموقفاً.
إنني مدينٌ له بفضيلة التأسيس والبداية، وأحمل له في قلبي ما يحمله الابن لأبيه، والتلميذ لمعلمه، والصديق لأخيه الأكبر.
كان ذلك قبل أربعة عشر عاماً حين ساق القدر مكالمة سكايب رتّبها الصديق عبد الرحيم خليفة، شقيقه، فجلست أمام الشاشة وأنا أسمع صوتاً فيه وقار وتجربة ودفء في آن واحد. كان محمد خليفة يتحدث إليّ كما لو أنه يعرفني منذ زمن طويل، لم يكن متعالياً أو متجهّماً كما قد يتصور المرء عن كاتب له تاريخه وصيته، بل كان قريباً، يفتح لك صدره ويشجعك على أن تتكلم. تلك اللحظة كانت بداية طريق جديد، طريق لن يتركني حتى اليوم.
لم تكن معرفتي به وليدة تلك المكالمة فقط. فقبل ذلك بسنوات عديدة، كان اسم محمد خليفة يتردّد في بيتنا. كان والدي يتابع مقالاته بإعجاب شديد، يتداولها مع رفاقه في الاجتماعات السرية، كما لو كانت أوراقاً مشعة وسط العتمة. كانوا يشعرون أن كلماته ليست مجرد تحليل سياسي، بل ذخيرة فكرية ومعنوية في مواجهة الاستبداد. ومنه عرفت أيضاً عن احدى كتبه: أحمد بن بلة “حديث معرفي شامل”الذي قال عنه والدي بأنه يعكس عمق فكره وسعة أفقه ووفاء الاثنين معاً لنهج عبد الناصر( بن بلا – خليفة).
حين التقيت به لأول مرة وجهاً لوجه في القاهرة في نيسان/ أبريل 2012، وجدتني أمام شخصية لا تترك لك خياراً إلا أن تنجذب إليها. جلسنا طويلاً نتناقش، وكانت أحاديثه مزيجاً من التاريخ والواقع، من الحنين والجرأة، من الحلم والحقيقة المرة. لم يكن يلقّنني، بل يزرع في داخلي ثقة بأنني قادر على التفكير الحر والالتزام. منذ تلك اللحظة أحسست أنني لست فقط أمام كاتب كبير، بل أمام أبٍ روحي وأخ أكبر وصديق حميم في وقت واحد.
تكررت لقاءاتنا بعد ذلك، فالتقينا في القاهرة مرات، وفي تركيا، وجاءني إلى ألمانيا في خريف 2016، ثم عاد مرة آخرى في 2017 بمناسبة إطلاق (ملتقى العروبيين السوريين). ثم كانت زيارتي له في استوكهولم حيث قضيت أسبوعاً كاملًا في منزله من نفس العام، ورأيت كيف يحوّل برد المنفى السويدي إلى دفء إنساني يحيط به من حوله. في 2018 شاركنا معاً أهلنا الأحوازيين مؤتمرهم في ماستريخت(الجبهة العربية لتحرير الأحواز) ووقفنا إلى جانب قضية مغيّبة ظلماً، ويومها عرفني على المناضل القومي الكبير العراقي المولد والنشأة عوني القلمجي وكلمات المدح الذي قدمني بها، يومها أقسمت أنني لن أحيد عن طريق أبا خالد. ثم عاد الى المانيا لنلتقي مجدداً عام 2018، ونجتمع في الدورة الثانية لملتقى العروبيين السوريين، وفي باريس، كانت آخر لقاءتنا فقد اجتمعنا في الدورة الثالثة لملتقى العروبيين السوريين في 15 سبتمبر 2019، الذي صادف أثناءه ذكرى ميلاده، فاحتفلنا به ومعه مع صحبة طيبة من الأخوة والأخوات. ولم أكن أعلم، حينها، أن ذلك سيكون لقاء الوداع بيننا، وأن كورونا ستخطفه بعد عام ونصف في نيسان/ابريل 2021.
محمد خليفة لم يكن بالنسبة لي مجرد رفيق لقاءات أو محاور سياسي، بل كان رجلاً تجسّدت فيه سيرة جيل كامل. وُلد في حلب، المدينة التي تشع منها روح العروبة والمقاومة معاً.
بدأ حياته معلم صف في ريف حلب، بينما كان يدرس الحقوق. ثم عمل في النيابة العامة لعدة سنوات، قبل أن يتفرغ بقرار مركزي لمتابعة شؤون التنظيم الشعبي الناصري، وهو ماوضعه بعد ذلك ومن خلال ثوثيق وتصوير مايرتكب بحق المدينة/ حلب في مواجهة مع السلطة، بحكم اهتمامه الصحفي والاعلامي الذي بدأ يخطو به اولى خطواته، وللعلم والحقيقة والتاريخ فان ذلك التنظيم ماهو إلا واجهة للطليعة العربية التي أسسها جمال عبد الناصر، وهو ماكان يعني له إلتزاماً قوميّاً لا مساومة فيه، لكن ثمنه كان ثقيلاً. ومع تصاعد التضييق الأمني صار بقاؤه في سوريا مغامرة قاتلة، فغادر عام 1981 إلى لبنان.
هناك في بيروت دخل زمن النار، فالحرب الأهلية مشتعلة، وبعدها جاء الاجتياح الاسرائيلي للبنان والحصار أطبق على المدينة، والرصاص ينهمر والقصف يشتد والمذابح والمجازر في كل مكان. لكنه لم يهرب، بل كان لصيقاً في المقاومة الوطنية، وقريباً من حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان مقره في حي المصطيبة، وآخر القلاع التي سقطت، كما أنه لم يكن بعيداً عن منظمة التحرير الفلسطينية وقادتها ورموزها. في بيروت الحصار تقاسم، محمد خليفة، غرفة ضيقة مع المفكر القومي الكبير إلياس مرقص، وصارت تلك الغرفة الصغيرة فضاءً للفكر والنقاش. كان واحداً من الذين قرروا أن يكونوا جسراً بين المدينة والعالم. كسر العزلة الإعلامية، استضاف صحفيين عرب كثر وفنانين، وشاركهم كل شيء حتى الطعام. بحسب شهادة الصحفية المعروفة حميدة نعنع كما أخبرتني في باريس عندما عرفني عليها، وقدمني لها، وكيف أنه تقاسم مع زواره آخر علبة سردين، في صورة تختصر كيف كان يرى الصحافة: ليست مهنة معزولة، بل مشاركة مصير.
بعد بيروت والتضييق عليه مجدداً قرر الرحيل إلى أثينا- اليونان وهناك بقي صوتاً معارضاً علنياً لنظام حافظ الأسد، عرفته الصحافة العربية صوتاً جريئاً منذ أن ارتبط اسمه بمجلة “الشراع” اللبنانية، التي واصل الكتابة فيها حتى وفاته. كان صوته وقلمه قومي الهوى، صريحاً، لا يهادن. وفي باريس حيث عمل مع أحمد بن بلة رئيساً لتحرير مجلة البديل المعبرة عنه والناطقة باسم حركته السياسية الوليدة، في حينها، وعندما رفضت السلطات الفرنسية تجديد إقامته ومنعه من دخول أراضيها كان عليه أن يحمل حقيبته مرة أخرى ويرحل، فكانت العودة إلى اليونان/ أثينا قبل أن يختار آخر منافيه السويد/ استوكهولم.
هناك حيث بدأ يتلقى مساعدات حكومية، كلاجئ، لبضعة أشهر فقط، حتى أحدث مفاجأة، حين امتلك ثمن فاكس واقتناه، وكان هو وسيلة تواصله مع عالم الصحافة والكتابة، فبدأ بإعادة الأموال التي حصلها من الدولة السويدية بصورة تكاد تكون منقطعة النظير بين من يهاحر للغرب، وذلك بشهادات كثر، منهم الصحفي أحمد كامل وأكمل حياته في السويد حيث قضى آخر سنوات حياته.
في محطات الراحل الكبير المهمة تخصصه في شؤون البلقان التي زار كل دولها وغطى الحرب على البوسنة والهرسك في التسعينيات، حيث كانت حرب أخرى تلتهم شعباً مسلماً أعزل، وأصبح مرجعاً للعديد من الصحف والمجلات العربية، وكانت الحصيلة كتابه الضخم الموسوعي “الإسلام والمسلمون في بلاد البلقان”، وقد كتبه بضمير عربي يرى في البوسنة معركة تخص الأمة كلها.
وكما هو معروف فإلى جانب عمله الصحفي، كان من مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، لجانب المفكر السوري برهان غليون، وفي السنوات الأخيرة عضواً مؤسساً في المؤتمر الشعبي العربي، ومشاركاً في منابر سياسية وفكرية كثيرة. كتب المقالات التحليلية والدراسات المهمة مثل “سوريا المريضة وليس الأسد”، وكانت صرخة مبكرة عن سبل مواجهة نظام الأسد الأب وبطشه، وأصدر ديوان شعر جمع فيها ما نظمه منذ بداياته في السبعينيات. وكان يرى في الشعر امتداداً للسياسة، وكان يعتبر أن القصيدة والكلمة الحرة كلاهما سلاح في معركة التحرر.
مع انطلاق الثورة السورية في مارس 2011، عاد محمد خليفة إلى شبابه وعنفوانه وحيويته. فقد كنا معاً في مشروع التيار الشعبي الحر في أبريل 2012، نبحث عن توحيد العروبيين في مواجهة النظام. ذهبنا إلى قطر للانضمام إلى توسعة المجلس الوطني السوري. هناك عشنا الخيبة الكبرى. دخلنا جميعًا من المطار، 424 شخصًا، واستُثني هو وحده. كانت قطر قد منعته من الدخول لأنه رفض أن يساوم، كان قد عرضوا عليه العمل في قناة الجزيرة ودعوه للإقامة عندهم مع عائلته يومها، وبعد الإنتقال لهناك وحوار مع أحدهم والنصيحة التي قدمها للنظام الحاكم طردوه مع عائلته بالثياب التي عليهم، تاركين منزلهم ومكتبته ومخطوطات لمشاريع كتب، وكل مايتعلق بعائلته وذكرياتهم وحتى أشيائهم الشخصية. وحتى اليوم ما زالت قطر تحتفظ بكل شيء، كأنها أرادت أن تصادر صوته بعد رحيله. كانت تلك حادثة تكشف بوضوح معنى المبدئية لديه: لم يبع نفسه، فدفع الثمن غاليًا.
لقد ترك محمد خليفة أثراً عميقاً في حياتي الشخصية. بفضله فهمت أن السياسة ليست دهاءً ومساومات، بل إلتزام وصدق. علّمني أن القلم موقف، وأن الحرية ثمنها العمر كله. أفتقده في كل يوم، لكنني أشعر أنه لم يغادرني قط. نصائحه ما زالت في ذاكرتي، وصوته يرشدني، وابتسامته تمنحني عزيمة. لقد فقدت بموته معلمًا وأخاً، لكنني كسبت إرثًا ومسؤولية.
رحل محمد خليفة في 22 أبريل 2021 بستوكهولم ضحية كورونا، لكن رحيله لم ينهِ حضوره. فهو ما زال بيننا في كل كلمة كتبها، في كل موقف سجّله، في كل طالب أو صديق أو رفيق تأثر به. ستظل ذكراه شاهداً على زمن كان فيه رجال لا ينكسرون. إنني أعاهده، اليوم، أن أبقى على دربه، أن أواصل الكلمة الحرة التي عاش من أجلها، أن أحمل قلمه كأمانة، أن أكون وفياً لفلسطين ولسوريا ولحلم الأمة.
محمد خليفة لم يكن عابرًا. كان رجلاً يكتب بدمه، ويعيش بفكره، ويقاوم بروحه. كان صوته جرس إنذار للأمة، وضميره مرآة لمستقبل أفضل. اليوم ونحن نحيي ذكرى ميلاده، لا نرثيه فقط، بل نحتفل بأنه كان بيننا، وبأننا عشنا زمنًا فيه رجال مثله. سلام عليك يا أبا خالد، ستبقى في قلوبنا ما بقيت الكلمة حرة، وما بقي الحلم حياً.