
في لحظة سياسية فارقة يعيشها الشعب السوري بعد سنوات طويلة من القهر والاستبداد والحرب المدمرة، يتجه الأنظار إلى الخطوة المنتظرة التي سيقدم عليها الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بتعيين سبعين عضواً من أصل مئتين وعشرة في مجلس الشعب السوري. هذه الخطوة، على الرغم من طابعها الاستثنائي، لا يمكن قراءتها إلا في سياق التحولات العميقة التي تمر بها الدولة السورية وهي تخرج من أتون واحدة من أكثر الحروب قسوة وتعقيداً في تاريخ المنطقة المعاصر، حرب حصدت مئات الآلاف من الأرواح، وألقت بملايين السوريين بين المنافي والمعتقلات والمقابر، وتركت وراءها مجتمعاً ممزقاً ونسيجاً سكانياً مضطرباً لا يمكن التعامل معه بالآليات الدستورية التقليدية التي كانت تُفترض في الظروف العادية. فالدولة التي أنهكها نظام العصابة الأسدية البائد لم تخرج من حرب متكافئة بين جيوش نظامية، بل من جريمة تاريخية مركّبة شملت قصف المدن وتهجير السكان وإبادة جماعية صامتة، ترافقت مع عمليات اعتقال ممنهجة طالت عشرات الآلاف الذين لا يزال مصير معظمهم مجهولاً حتى اللحظة، في حين ابتلع البحر أعداداً أخرى خلال محاولاتهم الهرب من جحيم الحرب، بينما استقر مئات الآلاف في بلدان اللجوء في أوروبا وتركيا والعراق ولبنان ودول أخرى. هذه التحولات الديمغرافية العميقة أنتجت واقعاً لا يمكن معه إجراء انتخابات نيابية تقليدية تعبّر بدقة عن الإرادة الشعبية، لأن سوريا اليوم تفتقر إلى إحصاء سكاني محدث وموثوق يمكن الاستناد إليه في توزيع الدوائر أو تحديد نسب التمثيل، كما أن كثيراً من مناطقها لا تزال في طور إعادة الإعمار وإعادة تثبيت السكان بعد تهجير قسري منظم استمر لسنوات.
من هنا، فإن التوجه إلى تعيين سبعين نائباً يمثل خطوة انتقالية تهدف إلى سد الفجوة بين الواقع الديمغرافي المشوش والحاجة الماسّة إلى بناء مؤسسة تشريعية قادرة على مواكبة المرحلة الجديدة. فالمجلس المقبل لا يمكن أن يكون نسخة مشوهة من مجالس النظام السابق التي كانت مسرحاً للولاء الأعمى لبشار الأسد الهارب ، ولا يمكن في الوقت ذاته أن يكون مجرد تجمع صوري لا يعبّر عن التنوع الحقيقي للمجتمع السوري بعد الكارثة. إن قرار التعيين المنتظر يهدف في جوهره إلى إدخال شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية وإدارية لا يمكن ضمان وصولها عبر الاقتراع الشعبي في هذه المرحلة المضطربة، إما بسبب التهجير أو غياب البيئة الانتخابية السليمة أو ضعف الهياكل الحزبية الجديدة التي ما زالت في طور التشكّل بعد عقود من القمع السياسي الممنهج.
ولعل التجارب التاريخية تثبت أن مثل هذه الخطوات ليست بدعة، بل هي أداة سياسية استخدمتها أنظمة وطنية في مراحل انتقالية لإعادة تشكيل الحياة السياسية على أسس جديدة. والتجربة الناصرية في مصر تقدم مثالاً واضحاً على ذلك. فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر، خلال مرحلة بناء الدولة الوطنية بعد ثورة يوليو 1952، يعمد إلى تعيين عدد من أعضاء مجلس الأمة (الذي أصبح لاحقاً مجلس الشعب) بهدف إدخال كفاءات سياسية وفكرية وإدارية لا تمتلك بالضرورة قاعدة انتخابية محلية، لكنها كانت ضرورية لبلورة التشريعات والسياسات الكبرى للدولة الجديدة. ففي ظل غياب التعددية الحزبية التقليدية التي تم إلغاؤها مع الثورة، لم تكن الانتخابات وحدها كفيلة بضمان تمثيل حقيقي للفئات الاجتماعية والمهنية المتنوعة، لذلك كان عبد الناصر يرى في التعيين وسيلة لإيصال صوت العمال والفلاحين والنقابيين والمثقفين والأكاديميين إلى داخل المجلس، وضمان أن تكون المؤسسة التشريعية منسجمة مع المشروع القومي والاجتماعي الذي تتبناه الدولة، لا مجرد انعكاس لتوازنات محلية أو عشائرية أو اقتصادية قديمة.
ومن الأمثلة اللافتة في التجربة الناصرية تعيين شخصيات أكاديمية وفكرية لعبت أدواراً بارزة في صياغة التشريعات الجديدة للدولة، أو شخصيات نقابية تمثل العمال والفلاحين ممن لم يكن لديهم أدوات تنظيمية كافية لخوض الانتخابات في تلك الفترة. كما تم تعيين ممثلين عن المرأة المصرية، التي كانت قد بدأت لتوّها دخول الحياة العامة، لضمان مشاركتها الفعلية في العملية التشريعية. هذه التعيينات لم تكن شكلية، بل ساهمت في إحداث توازن داخل المجلس وأعطته عمقاً فكرياً وسياسياً افتقدته المجالس التي سبقت الثورة. وبهذه الطريقة استطاع عبد الناصر أن يحوّل البرلمان من ساحة صراع حزبي إلى منصة لدعم القرارات الوطنية الكبرى مثل قوانين الإصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس، وقوانين التأميم الواسعة في الستينيات، وهي قوانين غيّرت وجه الاقتصاد والمجتمع المصري.
وإذا أسقطنا هذه التجربة على الواقع السوري الراهن، سنجد أن المنطق ذاته ينطبق في كثير من جوانبه. فالمجتمع السوري الذي تعرّض للتفتيت على مدى عقد كامل لا يمتلك اليوم منظومة حزبية متماسكة يمكنها خوض انتخابات حرة تمثيلية خلال أشهر قليلة. القوى السياسية الجديدة، سواء كانت قوى معارضة وطنية أو تيارات مدنية صاعدة، ما زالت في طور إعادة التموضع بعد عقود من الاستبداد. كثير من الشخصيات الوطنية البارزة موجودة في الشتات، وبعضها لا يمكنه العودة فوراً لأسباب أمنية أو لوجستية. وهناك مكونات مجتمعية بكاملها تحتاج إلى تطمينات وضمانات تمثيل حقيقية بعد أن تعرّضت للتهميش أو الاضطهاد أو التهجير المنهجي، مثل سكان المناطق التي شهدت عمليات حصار وتجويع، التي عانت من عسف أجهزة النظام السابق.
في ظل هذا الواقع، يصبح تعيين ثلث أعضاء المجلس تقريباً أداة ضرورية لإعادة تركيب المشهد السياسي بطريقة متوازنة، بحيث يُفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية التي لم تتلوث بالفساد أو التبعية لنظام الأسد، والتي يمكن أن تساهم في صياغة التشريعات الجديدة للدولة الديمقراطية المنشودة. فهؤلاء المعيّنون لن يكونوا مجرد ديكور، بل سيكونون رافعة سياسية وفكرية لإطلاق عملية تشريعية حديثة، تُبنى فيها مؤسسات الدولة على أساس المواطنة لا المحاصصة الطائفية أو الولاءات الأمنية، وتُصاغ فيها القوانين التي تنظم العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين وضمان حقوق المكونات كافة. وهنا تكمن أهمية أن يتم اختيار هؤلاء السبعين بدقة وشفافية، وفق معايير الكفاءة والنزاهة والتمثيل الوطني، لا على أساس الانتماء السياسي الضيق أو العلاقات الشخصية.
إن خطوة الرئيس أحمد الشرع لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياق التاريخي الذي جاءت فيه. فالرجل الذي تولّى السلطة في مرحلة انتقالية معقدة بعد سقوط نظام الأسد يواجه تحدياً مزدوجاً: من جهة عليه أن يعيد بناء الشرعية السياسية من الصفر تقريباً في بلد انهارت فيه مؤسسات الدولة أو تحولت إلى أدوات قمع، ومن جهة أخرى عليه أن يسرّع عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي دون أن يسمح للفوضى أو الفراغ أن يبتلعا الدولة. في مثل هذه اللحظات التاريخية، يصبح من المشروع بل من الضروري اللجوء إلى آليات استثنائية مؤقتة تضمن الاستقرار والتمثيل معاً، على أن يتم تطويرها لاحقاً مع تحسن الظروف الأمنية والسياسية وإجراء إحصاء سكاني شامل وتنظيم انتخابات عامة حرة تحت إشراف قضائي ودولي نزيه.
ولأن الذاكرة السورية مثقلة بتجارب المجالس الصورية التي كانت تدار من أقبية المخابرات، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في تعيين السبعين، بل في كيفية اختيارهم وأدوارهم اللاحقة. فإذا جاء الاختيار معبّراً عن روح المرحلة الجديدة، وضمّ شخصيات معروفة باستقلالها ونزاهتها، فسيشكّل هذا التعيين خطوة أولى في مسار بناء حياة برلمانية حقيقية. أما إذا تحوّل إلى أداة للمحاصصة أو إعادة إنتاج الولاءات القديمة، فإنه سيقوّض الثقة مبكراً ويعطي خصوم العملية الانتقالية ذريعة للتشكيك فيها.
لقد علمتنا التجربة الناصرية أن التعيين في البرلمانات يمكن أن يكون أداة بناء إذا وُضع في إطار مشروع وطني واضح، ويمكن أن يكون أداة تزيين إذا استُخدم لإضفاء الشرعية على السلطة دون مشاركة حقيقية. الفارق يصنعه الهدف والاختيار. وفي الحالة السورية اليوم، حيث تتشابك الجراح مع الآمال، يمكن لتلك الخطوة أن تكون ركيزة لإطلاق مرحلة تشريعية جديدة، توازي في رمزيتها تلك اللحظة التي أدخل فيها عبد الناصر العمال والفلاحين والمثقفين إلى قلب المؤسسة التشريعية المصرية، ليصبح البرلمان صوت الثورة لا صوت الإقطاع.
إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد مقاعد مملوءة تحت قبة البرلمان، بل عقول وضمائر حرة مؤمنة برسالة الوطن، قادرة على وضع اللبنات الأولى لدولة جديدة تستعيد دورها القومي ومكانتها الطبيعية في الصف العربي. وإذا كان التعيين يمثل أداة انتقالية لتحقيق هذا الهدف، فإن نجاحه يتوقف على مدى انبثاقه من إرادة وطنية صادقة تعبّر عن وجدان السوريين، لا عن حسابات ضيقة أو محاصصات وقتية. وعندما يتحوّل المجلس القادم إلى منبر حيّ للإرادة الشعبية الحرة، وإلى منصة لصياغة مشروع وطني جامع، فستكون سوريا قد خطت أولى خطواتها الجادة نحو استعادة مكانها الطليعي في الأمة، وطي صفحة مظلمة من تاريخها الحديث .