
ربّما المستجدّ الأبرز في مصطلح الشرق الأوسط الجديد هو أنّه ليس جديداً ولا يتجاوز التسمية المتداولة. الشرق الأوسط بدا جديداً مرّات عدّة في الماضي، منذ سقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالميّة الأولى. بعد عشرينيّات القرن المنصرم نشأت دول المنطقة لتشكّل الشرق الأوسط الجديد لتلك المرحلة، الذي كان حينها ضمن نطاق جغرافيّ أوسع عُرف بالشرق الأدنى.
برز شرق أوسط مختلف بعد حرب 1948 ونشوء دولة إسرائيل. سرعان ما انطلق شرق أوسط آخر نواته العالم العربي زمن الحقبة الناصريّة التي تراجعت إثر هزيمة 1967، فحلّ مكانه شرق أوسط عربيّ جديد، دافعه القضيّة الفلسطينية والتحرير بوسيلة الكفاح المسلّح. وما لبث “الجديد” أن دخل معادلة أخرى بعد حرب 1973 وما تبعها: معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل في 1979 وهدنة طويلة في الجولان برعاية دوليّة منذ 1974.
تلازم الشرق الأوسط الجديد بالمفهوم الرائج مع الاجتياح الأميركي للعراق في 2003. والجديد فيه لم تكن الديمقراطية التي نادت بها واشنطن بتأثير من “المحافظين الجدد”، بل سيطرة إيران على العراق وتوسّعها وتفكّك الجيش العراقي. ثمّ جاء انسحاب الجيش الأميركي بعد مواجهات طاحنة مع “داعش” فعاد العراق ساحةً مفتوحة لنزاعات المنطقة.
أمّا اليوم فما من جديد فعليّ في الشرق الأوسط إلّا بعد قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. في المقابل، لا جديد بالنسبة إلى إسرائيل في الشرق الأوسط سوى الاتّفاقات الإبراهيميّة المرادفة للتطبيع بلا أيّ مقابل وتقويض حلّ الدولتين.
برز شرق أوسط مختلف بعد حرب 1948 ونشوء دولة إسرائيل. سرعان ما انطلق شرق أوسط آخر نواته العالم العربي زمن الحقبة الناصريّة التي تراجعت إثر هزيمة 1967، فحلّ مكانه شرق أوسط عربيّ جديد
مصلحة مشتركة في قيام دولة فلسطينيّة
لكن واقعيّاً قد تكون لجميع الأطراف المعنيّة مصلحة بقيام دولة فلسطينية، وإن بدا ذلك مستغرباً. إسرائيل التي يحكمها أقصى التطرّف ترفضها، وتحديداً بنيامين نتنياهو منذ حكومته الأولى في 1996. هذا مع العلم أنّ خيار الدولة الواحدة بقوميّتين يشكّل وصفة أكيدة لتلاشي الهويّة اليهوديّة لإسرائيل التي رُفعت في السنوات الأخيرة إلى مصافّ القانون الملزم. إلّا أنّ خيارات إسرائيل باتت محدودة بعد حرب غزّة وفشل مشروع التهجير الجماعيّ وتوسّع الاعتراف الدوليّ بدولة فلسطينية مع سعي فرنسيّ وسعوديّ في هذا الاتّجاه. إسرائيل الأقوى عسكريّاً هي أيضاً الأكثر عطباً سياسيّاً.
لأميركا أيضاً مصلحة في قيام دولة فلسطينيّة ولو بعد حين. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية صار أكثر واقعيّة وإدراكاً لمصالح أميركا مع السعوديّة ودول الخليج. ولا مصلحة لواشنطن بمعاداة العالم من أجل خيارات لا تشكّل خطراً فعليّاً على إسرائيل. تبقى إيران، وإن متضرّرة من أيّ حلول ممكنة، فإنّ أولويّاتها اليوم هي إنهاء الحصار الدولي والدفاع عن مصالحها. هموم إيران الدولة والتحدّيات التي تواجهها تتصدّر حسابات الثورة. فالدولة ثابتة منذ قرون والثورة متحرّكة.
أمّا في ما يخصّ أكثر المعنيّين، أهل البيت الفلسطينيّ، من سار منهم بحلّ الدولتين بقيادة ياسر عرفات منذ 1993 أو المعارضين بقيادة “حماس”، فلا بدائل عمليّة أمامهم سوى حلّ الدولتين. هذا الواقع تعود جذوره إلى قرار الأمم المتّحدة بالتقسيم في 1947 الذي رفضه الفلسطينيّون والعرب، وتظاهر بقبوله رئيس حكومة إسرائيل ديفيد بن غوريون، وسار به بعد نحو أربعين عاماً إسحاق رابين وشيمون بيريز لأسباب مختلفة.
في الجانب الفلسطيني، قرار إعلان الدولة في مؤتمر الجزائر في 1988، وقبل ذلك إعلان عرفات في برنامج النقاط العشر في 1974 إقامة سلطة وطنيّة على أيّ أرض محرَّرة في فلسطين، الذي قوبل “بجبهة الرفض”، وصل إلى خواتيمه في اتّفاق أوسلو مع حلّ الدولتين والاعتراف المتبادل بين منظّمة التحرير وإسرائيل.
في مطلع الستّينيّات تكلّم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عن حلول واقعيّة واتُّهم بالعمالة والخيانة. وفي الماضي تكلّم أرييل شارون عن الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيّين، وبات هذا الكلام من الماضي
سرديّة إزالة إسرائيل
أمّا السرديّة المعروفة عن إزالة إسرائيل فباتت ذريعة تستغلّها إسرائيل لمزيد من الاحتلال والتهويد ليس في غزّة فحسب، بل أيضاً في الضفّة. إسرائيل الكبرى حلمٌ من نسج خيال نتنياهو، فهو غير قادر على ضبط “حماس” في غزّة المدمّرة. أمّا المجتمع الدولي فلن يرضى بإزالة إسرائيل 1948، وهو سائر باتّجاه حلّ الدولتين. بكلام آخر، معادلة ممكنة قوامها دولة مقابل أخرى.
هذا الكلام، الخارج عن الأنماط الأيديولوجيّة المتداوَلة، لا يحبّذه البعض، وقد يرى فيه البعض الآخر سذاجة أو ربّما خيانة. حقيقة الأمر أنّ العوائق كثيرة والحلول بالغة التعقيد، إلّا أنّ الواقع قائم بحلوه ومرّه في موازين القوى السائدة.
إقرأ أيضاً: أيّ إسرائيل بعد غزّة؟
في مطلع الستّينيّات تكلّم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عن حلول واقعيّة واتُّهم بالعمالة والخيانة. وفي الماضي تكلّم أرييل شارون عن الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيّين، وبات هذا الكلام من الماضي. وفي عام 2000 كان التفاوض على القدس، بينما اليوم القدس عاصمة إسرائيل باعتراف أميركيّ. فلسطين 1948 شكّلت هزيمة للحركة الصهيونية. وأيّ دولة فلسطينيّة اليوم هزيمة لنتنياهو ومؤيّديه.
لكن في أيّ حال لا شرق أوسط جديداً بلا تسوية ركيزتها دولة فلسطينية ولا تطبيع بلا سلام عادل. أمّا البدائل فمعروفة ومجرَّبة، وكذلك نتائجها الكارثيّة التي يدفع أثمانها الناس، ولا سيما في فلسطين.
* استاذ جامعي وسفير سابق
المصدر: اسا س ميديا