من المفترض أن تنهي الهيئة المصغرة للجنة الدستورية السورية أعمالها السبت، ضمن الجولة الثالثة التي انطلقت في 24 أغسطس/آب الحالي، وشهدت أعمالها تعليقاً لفترة زمنية بسبب إصابة أربعة من أعضائها بفيروس كورونا. واللافت أنّ هذا الأمر لم يؤدِ إلى توقف هذه الجولة وفشلها كسابقتيها، وربما يشير ذلك إلى جدية أممية ودولية إلى جانب أطراف اللجنة، ولا سيما المعارضة والمجتمع المدني، بالمضي قدماً بجدول أعمال الجولة التي كانت مقررة لمناقشة المبادئ والركائز الوطنية التي أصرّ عليها النظام في الجولة الماضية، ومن ثمّ الانتقال لبحث المضامين الدستورية الأخرى، على الرغم من محاولة وفد النظام وضع العراقيل منذ الجلسة الأولى لأعمال اللجنة.
تحركات المبعوث الأممي غير بيدرسون، والجهود الدولية والغربية، وفي مقدمتها المساعي الأميركية إلى جانب المعارضة السورية، تحاول إتمام أعمال اللجنة بالكامل والخروج بصيغة دستور جديد للبلاد قبل موعد الانتخابات الرئاسية منتصف العام المقبل، لتفويت الفرصة على الروس والإيرانيين بالتمديد لبشار الأسد لفترة رئاسية أخرى، ضمن مسرحية انتخابية جديدة تكون الذريعة فيها عدم إتمام أعمال اللجنة الدستورية. وتعد الانتخابات واحدة من السلال الأربع (الحكم غير الطائفي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب) المستمدة من القرار الأممي 2254 الذي يقضي بالانتقال السياسي وإعداد دستور جديد، ومن ثمّ الذهاب إلى انتخابات عامة.
واستأنفت أعمال الجولة الحالية للجنة الدستورية أول من أمس الخميس، بعد توقف لمدة يومين بسبب اكتشاف إصابة أربعة أعضاء منها بفيروس كورونا خلال الجلسة الأولى من اجتماعات اليوم الأول، وعلى الرغم من أنّ الجلسة الأولى شهدت خلافات بين وفدي المعارضة والنظام على التوصيفات والتسميات. فقد أطلق وفد النظام على نفسه تسمية “الوفد الوطني” في إشارة إلى تمثيله الدولة السورية، الأمر الذي استدعى تقديم اعتراض من قبل الرئيس المشترك للجنة عن وفد المعارضة هادي البحرة على ذلك، مطالباً الالتزام بالتسميات التي اعتمدتها الأمم المتحدة منذ الجولة الأولى لأعمال اللجنة. وجاءت مسألة التعليق، علاوة على خلاف التسميات، لتهدد أعمال اللجنة بالتوقف والفشل كما حدث في الجولتين السابقتين، إلا أنّ قرار مكتب المبعوث الأممي غير بيدرسون جاء الخميس لينهي الجدل، مؤكداً على المضي بإكمال الجولة باتخاذ الإجراءات الصحية والوقائية المطلوبة.
وقالت عضو اللجنة الدستورية عن قائمة المعارضة، ديمة موسى، في حديث للصحافيين أمس الجمعة: “نتوقع الاستمرار بمناقشة مضامين دستورية ضمن إطار جدول الأعمال لهذه الجولة، والتي شملت حتى الآن أمورا مثل سيادة الدولة، الحريات، والهوية الوطنية”، مشيرةً إلى أن اليوم السبت هو آخر أيام انعقاد الجولة الحالية. وأضافت: “نحن تقدمنا بطلب أن يكون هناك جلسة أيضاً يوم الأحد، مع إمكانية الاستمرار الأسبوع المقبل، ولكن هذا الطلب لم يحظَ بموافقة جميع الأطراف”.
ورداً على سؤال لـ”العربي الجديد” حول التقدم بأعمال اللجنة من خلال الإشارة ضمن حديثها إلى مناقشة مضامين دستورية في الجولة التي كانت مخصصة لمناقشة الركائز والمبادئ الوطنية، قالت موسى إنّ “كل ما تم ذكره هو ضمن جدول الأعمال لهذه الجولة، وكل شيء نناقشه سواء مبادئ أو غيره هو مضامين دستورية”.
عموماً، فإنّ هذه الجولة تعد أنجح من حيث الاستمرارية وحتى المناقشات عن الجولتين السابقتين، ويرجع ذلك للضغط الدولي بإنجاحها ضمن هذا التوقيت بالتحديد. فالمعلومات تشير إلى أنّ النظام أتى إلى جنيف بعد ضغط روسي، علاوة على الخوف من مزيد من العقوبات الأميركية بموجب قانون قيصر في حال لم ينصع للانخراط أكثر في المسارات السياسية لحل الأزمة السورية. إضافة إلى ذلك، حاول الأميركيون إبراز أهمية المسار الدستوري في طريق الحلّ السياسي، من خلال زيارة المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأميركية لسورية جويل ريبيرن (الذي يشغل أيضاً منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون بلاد المشرق) برفقة الممثل الخاص لشؤون سورية والمبعوث الخاص للتحالف الدولي لهزيمة داعش السفير جيمس جيفري، إلى جنيف قبيل انطلاق أعمال اللجنة، واجتماعهما بأعضاء وفد المعارضة في اللجنة الدستورية، قبل توجههما إلى تركيا للقاء مسؤولين في المعارضة السورية والحكومة التركية.
وحاول وفد النظام اتخاذ زيارة ريبيرن وجيفري إلى جنيف ولقائهما وفد المعارضة، ذريعة لتعطيل أعمال اللجنة، إذ أشار أحمد الكزبري الرئيس المشترك للجنة عن وفد النظام إلى “رفض أي تدخل خارجي في عمل اللجنة، فهي بقيادة وملكية سورية، وعلى الأمم المتحدة التي تقوم بتيسير عملها عدم السماح بهذا التدخل”.
وقال الكزبري في اتصال هاتفي مع الفضائية السورية الخميس، “إن تدخلات الغرب ومحاولته توجيه الوفود الأخرى كانت تتم في الاجتماعات السابقة من تحت الطاولة، أما في هذه الجولة فقد أصبحت بشكل علني من خلال تصريحات جيمس جيفري ولقاءاته مع هذه الوفود، الأمر الذي يؤكد ما أعلنته الدولة السورية سابقاً عن وجود تدخلات غربية في المسار السياسي، والآن هذا التدخل يمتد إلى عمل اللجنة ونحن لن نقبل به على الإطلاق”. وأوضح الكزبري أنّ إحدى الجلسات “شهدت خروجاً للوفود الأخرى عن المبادئ المتفق عليها، وبدأ البعض يتحدث عن مبادئ دستورية، وهناك من تحدث عن أمور تنظيمية ومن طرح مواد صياغية”، لافتاً إلى أنّ “الوفد الوطني تقدم بنقاط نظام، لأن ما طرح يخالف المبدأ وجدول الأعمال المتفق عليه”.
ويوحي كلام الكزبري بمحاولة وفد النظام المراوحة في أعمال اللجنة عند مناقشة “الركائز والثوابت الوطنية” التي تشدد في تكريس مناقشتها قبل الدخول في مناقشة المضامين الدستورية الأساسية في الجولة الماضية، ما أدى لتعطلها وفشلها. وستحمل الجلسة المقبلة أجوبة حول ما إذا كانت أعمال اللجنة ستتمكن من الدخول بمناقشة المضامين من عدمه، وعند ذلك سيكون الحكم على مستقبل اللجنة وجدية النظام في الاستمرار ببرنامجها.
وحول تقييم الجولة الحالية، رأى الحقوقي محمد علي الصايغ، عضو اللائحة الموسعة للجنة الدستورية عن وفد المعارضة، أنه “منذ مفاوضات جنيف إلى أستانة وصولاً الى اللجنة الدستورية، وهناك أطراف من داخل طرفي الصراع الداخلي ليست لها مصلحة في الوصول إلى حل سياسي، تبعاً لمصلحة كل منها، ورؤيته لنهاية الصراع ومكانه وحضوره في مستقبل إدارة الحكم في سورية، ولكن الطرفين المفاوضين لا يتحكمان وحدهما في عملية التفاوض، إذ تتداخل فيها كعامل أساسي إضافي دول إقليمية وغربية، تتزاحم في صراعاتها ومصالحها وحضورها أيضاً في العملية التفاوضية وتدفع أو تعرقل أو تعطل مسارها نحو الدخول بخطوات جدية لإنجاز الانتقال السياسي عبر دستور وطني جديد”. وأضاف الصايغ في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “في هذه الجولة (الثالثة) لا تزال الأمور محكومة بالآليات والتوازنات السابقة ذاتها، وهي لا تزال مستمرة ولا نستطيع الحكم عليها، خصوصاً في ضوء التصريحات التي اعتدنا عليها في كل جولة من قبل القوى الإقليمية والدولية، من جدية الدفع للوصول إلى نتائج تدفع باتجاه العملية السياسية. إلا أن المؤشرات ما زالت تدلّ على أنّ هذه القوى الدولية وإن كانت متفقة في العموميات على رؤيتها لمستقبل سورية، لكنها ما زالت مختلفة بالتفاصيل وعلى مساحات النفوذ ومصالح كل منها”.
وحول ما إذا لم تنجز اللجنة الدستور وتنهِ أعمالها مع حلول موعد الانتخابات الرئاسية منتصف العام المقبل، أشار الصايغ إلى أنّ “اللجنة الدستورية مشكّلة استناداً لقرار مجلس الأمن 2254/2015 الذي حظي بإجماع دولي، وتنفيذ القرار الدولي محكوم بتشابك المصالح الإقليمية والدولية وتعقيداتها نظراً لطبيعة الموقع الجيوسياسي السوري، لذلك فإنّ التأجيل أو التراخي في تنفيذ القرارات الدولية لا يعني انتهاء وجودها كطريق لأي حلّ في سورية. وقد ثبت بعد عشر سنوات من الحرب والاحتراب وشلالات الدم والنزوح والتهجير، أنّ الحل العسكري في انتصار طرف على آخر وصل إلى طريق مسدود، وأنه لا سبيل إلا بالحل السياسي التفاوضي للانتقال السياسي في الدولة والحكم”.
وأضاف: “بالتالي، فإنّ إنجاز انتخابات برلمانية أو رئاسية لا يمكن أن يحدث تغييراً في الأزمة السورية التي ما زالت تتفاقم يوماً بعد يوم في ظلّ وجود احتلالات متعددة، وقوى داخلية متعارضة ومتقاتلة وأكثرها مرتبط بأجندات خارجية، واقتصاد يعاني التضخم الشديد ويزيد من معاناة الناس وقهرهم. وقد يقود كل ذلك إلى الانفجار أو ما يعرف بثورة الجياع. أمام كل ذلك وغيره، فإنه لم يعد بإمكان أحد الدفع بإعادة سورية إلى ما قبل عام 2011، فأي طرف من الأطراف الداخلية يتوهّم بالعودة إلى ما قبل 2011 يريد إبقاء الوضع الكارثي لبلدنا مستمراً، وبالمحصلة سيرفض أو يعرقل المسار السياسي، وإذا استمرت حالة الرفض والعرقلة، فإنّ الحلول أو تطبيق القرارات الدولية قد تفرض من فوق، أي من القوى الدولية النافذة في سورية أو عبر طائف جديد مفروض على سورية، في غياب حقيقي لإرادة السوريين، وهذا لا يريده ولا يقبله أي مواطن في بلدنا”.
من جهته، قال أحد أعضاء قائمة المجتمع المدني في اللجنة الدستورية، في حديث لـ”العربي الجديد” مفضلاً عن الكشف عن اسمه، إنه “في بداية الجولة الحالية، كانت المؤشرات توحي بجدية العمل، لا سيما وأن الوفد الحكومي صرح بأنه يجب عدم إضاعة الوقت والسعي الجاد لصياغة مسودة الدستور”. وأضاف “بعد تعليق الجولة واستئنافها مجدداً، عادت حالة الاحباط لتكون هي السائدة، في ظلّ إصرار الوفد الحكومي على إضاعة الوقت وكذلك إصراره على مسمى (الوفد الوطني)، في إشارة إلى أنّ باقي المشاركين الذين لم يأتوا من دمشق هم أناس غير وطنيين وهم يعملون لأجندات غير وطنية، وهذا ما دفع الكزبري للتصريح بأنّ إصابات كورونا قد توزعت على إصابتين بين أعضاء (الوفد الوطني) وإصابة بين أعضاء (الوفد التركي)، في إشارة لإصابة أحمد العسراوي من وفد المعارضة، على الرغم من أنه قادم من دمشق، وهذا إصرار وتمسك بالتوصيف غير المقبول”.
وتابع: “أصرّ وفد الحكومة على إضاعة الوقت كالعادة، ومناقشة فقط المبادئ الوطنية، واعتبر طرح أي مبدأ دستوري هو خارج الأجندة المتفق عليها، مما يوحي بإصرار النظام على المماطلة وعدم الدخول بأعمال اللجنة الدستورية بشكل جدي، الأمر الذي دلل بشكل قاطع على أن العملية الدستورية هي عملية طويلة جداً قد تستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية السورية المقررة في منتصف العام المقبل”.
المصدر: العربي الجديد