البحث عن لحظة نجاة في غزّة

سما حسن

توصل العالم إلى حقيقة ثابتة وواحدة منذ بدأت المقتلة التي لا تتوقف منذ نحو عامين، أن لا مكان آمن في كل أنحاء قطاع غزّة. وعلى صِغَر مساحته وكثافة سكّانه، إلّا أنه يتعرّض لأبشع طرق اقتلاع الحياة، حتى أثبت الموت أنّه السِّمة العامة، حتى لمن ما زالوا يتنفّسون بين شهيقٍ وزفير، على أساس أنّهم “الموتى الأحياء” كما يصفون أنفسهم. ولذلك هم يستقبلون أوامر الإخلاء وضرورة ترك أماكنهم على أساس أنّها مصنّفة أماكن خطِرة بلامبالاة أو باستسلام، أو أنك فعلاً لا تعرف كيف تصف مشاعرهم مقابل الموت المعربد حولهم. ولكنهم فعلاً يتبادلون الأدوار، وهم يحاولون البحث عن لحظة نجاةٍ من بين كل أسباب الموت حولهم.

في الأيام الأخيرة، تحدّثتُ مع كثيرين ممّن قرّروا النزوح للمرّة الأولى من أطراف مدينة غزّة الشمالية الشرقية نحو جنوب القطاع، وتحديداً باتجاه ما تعرف بـ”مواصي خانيونس”، المنطقة الأكثر شهرةً بأنها مصنّفة منطقة إنسانية. وكان لسان حال هؤلاء أنّهم قد تعبوا وقرّروا أخيراً، وبعد نحو عامين من الصمود في بيوتهم أو التنقّل بين أنحاء المدينة نفسها، أن ينزحوا نحو جنوب القطاع، لأنّهم لم يعودوا يملكون طاقة الصبر والتحمّل، ولأنّهم، من دون اتفاق مكتوب، قرّروا أن يمنحوا فرصة الصمود والبقاء لمن نزحوا نحو جنوب القطاع في الأيام الأولى من الحرب.

كلّنا نذكر الإنذارات الأولى التي تلقّيناها بعد أيام قليلة من الحرب، وتحديداً في يوم الجمعة الأول، بضرورة إخلاء شمال القطاع حتى حدود وادي غزّة، والاتجاه نحو الوسط والجنوب. وكلّنا نذكر كيف خرجنا تحت وقع القصف العشوائي المجنون نحو الجنوب. ولكن قلّةً بقوا في بيوتهم أو قرّروا التنقّل بين أنحاء المدينة، فاتجهوا نحو غربها أو وسطها، فأقاموا في بيوت أقاربهم الفارغة التي نزح أصحابُها نحو الجنوب، أو أقاموا في خيامٍ في الساحات العامة، فامتلأت تلك الساحات، مثل الملعب الأشهر في المدينة، والمعروف بملعب فلسطين، وكذلك شهدت باحات الجامعات تجمّعاً كبيراً للنازحين الذين تمسّكوا بالبقاء في منطقة شمال الوادي، وظلّوا صامدين رغم القتل الملاحق لهم، وسياسة التجويع التي انتهجها العدو، لكي يدفعهم إلى المغادرة حتى تناولوا طعام الدواب. ورغم ذلك، ظلّوا صامدين في أماكنهم، خصوصاً وهم يسمعون عن كذبة المنطقة الإنسانية، وما تتعرّض له يومياً من قصف. بل إنّهم لم يتوقّفوا عن نعي أحبّتهم وأقاربهم النازحين إلى هناك، وتشتّتت العائلات وتمزّقت، وفقدت معظم أفرادها ما بين شمال وجنوب.

نلمح اليوم تبادلاً للأدوار وسط يأسٍ وبحثٍ عن لحظة نجاة خائبة. فقد قرّر النازحون، في بداية الحرب، البقاء في غرب مدينة غزّة، وأعلنوا رفضهم القاطع تكرار تجربة النزوح المريرة، فيما قرّر الصامدون منذ بداية الحرب أن ينزحوا هذه المرّة، لأنّ هذه الجولة الوحشية التي يشنّها العدو، حسب وصفهم، قد تفوّقت على كلّ الجولات. وأصبح استخدام الأسلحة والذخائر الحديثة أكثر بَذخاً ممّا كان عليه قبل نحو عامين، خصوصاً استخدام ما يُعرف بـ”الروبوتات المتفجّرة”، التي أصبح انفجارها يطاول مساحة واسعة تصل إلى أجسام صغارهم، وعلى محيط نحو كيلومتر من مكان انفجارها الأصلي.

يوغل العدو اليوم ويتوحّش أكثر في محاولة لإفراغ مدينة غزّة من سكّانها. وفيما يضع الخطّة تلو الخطّة، يقرّر السكّان البؤساء عديمو الحيلة، ومن دون اتفاق يُلفظ أو يُكتب، ألّا يتركوا المدينة فارغة. وها هم يتبادلون الأدوار: فينزح نحو الجنوب مَن لم يخُض تجربة النزوح منذ بداية الحرب، وهو يعرف أن لا نجاة أبداً من نزوحه. ولكنها خطّة غير مكتوبة، واتفاقية عقدها أهل المدينة ما بين خوفٍ وصبر، وبين رجاءٍ وأملٍ عاثر بأنّ المدينة لن تُفرغ من أهلها، وأنّ البقاء فيها لا يعني النجاة، بل هو انتظار بطيء لمجهولٍ مميت. ولكنهم، في كل حال، لا يرفعون أبداً راية الاستسلام.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى