في الحاجة إلى عملية “ردعِ العدوان” الثانية

مضر رياض الدبس

 يفيد المشهد السوري الراهن بأن العصبيّات هي العدو الأساسي الذي يعاني منه مفهوم الفضاء العمومي السوري، ومن ثم، بطبيعة الحال، مفهومات الوطنية، والدولة، والسياسة، امتداداً إلى التنمية، والعدالة، وكرامة الإنسان، وحقوقه. وللأسف، تتورّط السلطة الانتقالية في لعبة العصبيات هذه أيضاً. تعمل العصبيات في سورية بوصفها “عدواناً” بوساطة تحويل الانتماء السياسي إلى رابطة عاطفية، تستمد قوتها من الدين والطائفة والإثنية. وبهذا المعنى هي تعمل بوصفها امتداداً للعصبية الصناعية التي بناها حافظ الأسد على مستوى أسلوب التفكير، فلو نظرنا إلى النقاشات العامة بشأن ما يحدُث في السويداء، مثلاً، لشاهدنا بوضوح أنّها لا تخرُج في مجملها عن أسلوب تفكير العصبيّات. وفي هذه الحالة الفاقعة، يبدو اللاوعي الثقافي والاجتماعي سيّد المشهد، ويلعب دوراً أشبه باللاوعي عند الفرد كما حدَّده فرويد؛ من ثم يصير الوعي الذي يحيل على استخدام العقل والمنطق، محكوماً بالعبارة الشهيرة في عصور الانحطاط الإسلامي: “من تمنطق تزندق”، وهذا ليس مجازاً، فالكلام الذي ينتج من سلسلة تفكير منطقية تستهدف المستقبل، وتسعى إلى صوْن الدماء والكرامات والحرّيات، صار يجلب لصاحبه الشتائم، والتخوين، والاتهامات المتناقضة من أطراف الصراع؛ فكلٌ يبني التهمة حسب موجبات الوجهة العصبيَّة لجماعته، ويستخدم هذه التهمة لمواجهة أسلوب التفكير الجدلي الموضوعي الذي يرى ما للبشر وما عليهم.

بما أن العصبيّات عدوان، فهذا يعني أن السوريين يحتاجون عملية ثانية لردع العدوان، غير أنها هذه المرّة لا تتم بوساطة الجرأة على استخدام السلاح؛ بل الجرأة على حل المشكلات من دون السلاح، أو بتعبير كانط: الجرأة على الاستخدام العمومي للعقل. وإذا كانت عملية ردع العدوان قد طردت إيران الخمينية من سورية، فإن العملية الثانية ينبغي أن تطرد “إيران الساسانية” من رؤوس السوريين، وأنماط مقارباتهم للسياسة، أي أن تطرد فكرة الدولة السلطانية التي نعيش في ظلها منذ صار الحاكم الإسلامي “ظل الله في الأرض”، بتأثرٍ واضح بطريقة كسرى في الحكم، أو منذ وُلد “الإسلام الكسروي” بتعبيرات محمد عابد الجابري. وطرد فكرة “الدولة السلطانية” من العقول السياسية يُعدُّ أيضاً شرطاً للتحرير، وردعاً للعدوان.

ليست العصبيات عدواناً فحسب، بل إنها تحتضن بيئة صناعة العدو بوصفه ضرورةً حيوية للعصبية، فمن دون العدو تتراخى النعرة، ولا تحقّق العصبية الحالة العامة الضرورية لوجودها، وهي حالة الـ”نحن” المساوية لمجتمع الفضائل، مقابل حالة الـ”هم” المساوية لمجتمع الرذائل والشرور. ومن ثم، تعني هذا القدرة على الاستخدام العمومي للعقل، ومجابهة العصبيات أيّاً كانت، تعني النجاة من الـ”نا” الدالة على الجماعة العصبية، من ثم أن يتحوَّل الناجون إلى فاعلين، فالمستقبل في سورية يبدأ من نتيجة فعلهم، ومن دونهم يستمر هذا البلد في طريقه إلى الماضي، والتأخر تاريخيًا أكثر مما هو متأخّر أساساً.

إن كان لبنان هو البلد الأول في العالم الذي يمتلك دستوراً وميثاقاً، فإن سورية، على ما يبدو، تمشي في طريقها إلى احتلال المركز الثاني في العالم

إذا تمعنّا، بموجب هذه المقاربة، في المشكلة في السويداء، أو في الساحل، أو في الجزيرة السورية، نجد أن الخصوم يختلفون في موضوع التفكير، وفي طريقة تحديد مشكلاتهم، غير أنهم يشتركون في أسلوب التفكير العصبوي بهذه المشكلات، اشتراكاً واضحاً يجعل الحلَّ مسألة صعبةً للغاية. ولهذا الأسلوب خصائص حدّدها باقتدارٍ مصطفى حجازي في حديثه عن العصبيات وآفاتها في سياق هدر المشروع الوطني، وهي: أولاً، اليقين القطعي الذي يفيد بأن العصبية الوحيدة التي تمتلك الحقيقة، وزعيمها مثالي لا يرتكب الأخطاء، وأعضاؤها نسخةٌ بعضهم من بعض، وصولاً إلى أن يصيروا هم العصبية والعصبية هم، فقبل أن يقتلوا الآخر يكونون قد أجهزوا على مفهوم الفرد، ومَثَّلوا بجثته. ثانياً: التعميم، وهذه نراها في عباراتٍ صارت رائجة جداً تكثفها عبارة “كلهم ضدّنا”، فيصير “كلُّ الدروز عملاء لإسرائيل”، و”كلُّ السنة متواطئون في قتل الدروز”، وإلى آخر هذا النوع من التعميمات. ثالثاً: الأحكام المُسبقة، التي تؤدّي إلى غزو الفضاء العام بالوهم فيصير من السهل القول بوجود “موقف درزي”، و”العلويون قتلوا السوريين”، و”السنّة يشعرون بالخوف من عودة الأقليات إلى الحكم”، إلى ما هنالك. ورابعاً: إلغاء التفكير الجدلي؛ فتتكون ثنائيات حادّة، معي أو ضدّي؛ فإما أن يقبل المرء بانفصال السويداء، أو يتم اتهامه بأنه مع المجزرة! وقد تتطوّر التهمة إلى السلفية الجهادية والتخوين، كما كان حافظ الأسد يتّهم مسيحيين بالانتماء للإخوان المسلمين! خامساً، والأكثر أهمية هي “الأزليَّة”، وهذه أيضاً استخدمتها عصبية الأسد عندما كانت تقول بخلود الرسالة، ولا نزال نراها بصورٍ مختلفة؛ فهذا شيخٌ درزي يريد إقليماً منفصلاً إلى “أبد الآبدين” (بتعبيراته)، وآخرون يكررون مع وزير الثقافة أن “دمشق لنا إلى يوم القيامة”؛ وكأن هذه الـ”نا” تدل على جماعةٍ طبيعية ناجزة، ولا تحتاج إلى ابتكارٍ وهندسة سياسية وإنسانية. ولنفكِّر قليلاً بهذا التشابه الكارثي بين العبارات الثلاث: “الرسالة الخالدة”، و”إلى أبد الآبدين”، و”إلى يوم القيامة”، ولنسأل أنفسنا ما الذي تغير في أسلوب التفكير؟ وفي ظل هذا الأسلوب الذي تمثله النقاط الخمس السابقة، ألا يصبح مفهوم المواطنة، والسعي إلى المواطنة، مجرّد إشاعة؟ فيما الواقع يشبه كلام شيخ الدين الدرزي نفسه عندما قال إنه يناشد كلاً من “سيده سلمان”، والعالم الحر من أجل إقليمٍ منفصل، وأن الذي يعمل ضد الانفصال من أبناء طائفته قد باع ضميره، وينبغي أن “يكفي الجماعة شرَّه”، كما قال.

وعلى سيرة الضمير، لنفكِّر بوساطة العلم، وبالعقل، والمنطق، ونسأل: ما الذي يُعطِّل الضمير أكثر من فكرة الانتماء إلى الجمع الكبير الذي لا يفكِّر؟ وأكثر مِن الجمع الذي يستسلم للاوعي الفرويدي في سلوكه ومقارباته وطريقة كلامه، ويصنع الروابط العضوية فيه استناداً إلى الدين، والطائفة، والعائلة، والإثنية، وما إلى ذلك؟ ينطبق هذا الكلام على الجماعات العصبية المتنازعة في سورية كلها، وليس حكراً على جماعةٍ من دون غيرها؛ فلكلّ منها موضوعه، وأهدافه، ولكنَّهم يتشاركون أسلوب التفكير نفسه.

السوريون لا يتشاركون شيئاً كبيراً هذه الأيام مثلما يتشاركون نمط التفكير العصبوي

ولنفكِّر في مسألة أخرى، أن في سورية إعلاناً دستوريّاً، مقبولاً أو مرفوضاً، إلا أنه مُعلن، وبما أنه مُعلن فإن مُعلنيه في الحد الأدنى متفقون على صحته؛ ولكن مُعلنيه أنفسهم لجأوا معه إلى “الميثاقية”، المُتمثلة في اتفاقات صارت موجودة في الأدبيات السورية الراهنة، ويتم التعامل معها بشكلٍ طبيعي، مثل اتفاقات الحكومة مع حكمت الهجري، أو اتفاق قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي مع الرئيس أحمد الشرع. هذا يُذكِّرنا بحالة لبنان، حيث ثمّة دستور للكل، ولكن هناك أيضاً ميثاقية يمثلها “اتفاق الطائف”، وفيها محاصصة وتطييف للحياة السياسية، بما يتعارض مع روح الدستور اللبناني الحديث، وبما يؤدّي إلى ضرباتٍ قاصمةٍ مستمرةٍ في مفهوم الدولة، وصولاً إلى هدرها، ومن ثم هدر الوطن. وإن صحّت الملاحظة أن لبنان هو البلد الأول في العالم الذي يمتلك دستوراً وميثاقاً، فإن سورية، على ما يبدو، تمشي في طريقها إلى احتلال المركز الثاني في العالم.

باختصارٍ وتكثيف، نحن في سورية الجديدة أمام شيءٍ نسميه “مُعاصبةً”، وليس مواطنة، فالألف في هذا النوع من الاشتقاقات اللغوية تُفيد المشاركة، والسوريون لا يتشاركون شيئاً كبيراً هذه الأيام مثلما يتشاركون نمط التفكير العصبوي. لذلك نحتاج عملية ردعٍ للعدوان، سياسيةٍ فكريةٍ، تُحوِّلنا من حالة “المُعاصِبين” الذين يتشاركون العصبية بالمعنى الذي طرحه ابن خلدون، إلى حالة المواطنين كما يعرفها العالم الحُر الكريم. وهذا يحتاج إدارة للعمليات الفكرية السياسية، لا العسكرية، تضع في مقدّمة أهدافها تدمير مفهوم الشوكة؛ وصولاً إلى رفض مقولة “قويت شوكتهم” أو “ضعفت”، و”ضعفت شوكتنا” أو “قويت”؛ بل إحالة مفهوم الشوكة الخلدوني هذا إلى التقاعد، والتفكير في ابتكار شرعيةٍ بنيوية. وأخيراً، يجد صاحب هذه السطور نفسه مضطرّاً لقول رأي أكثر صراحة كالآتي: القول إن “دستورنا التوحيد” كما قال الهجري في السويداء هو كارثة، توازي كارثة شدّ عصب “السُنة”، وتحويلهم إلى طائفةٍ في رحلة البحث عن الشرعية السياسية و”الشوكة” الخلدونية؛ فإذا كانت الأولى قد تؤدي إلى القضاء على السويداء، فقد تؤدّي الثانية إلى القضاء على سورية، لأن “السُنة” في سورية هي الجماعة التي تحمل المشروع الوطني تاريخيّاً. الأقلية الناجية من الانتماء العصبي هي حاضنة مشروع التفكير هذا، وهي سندُ من لا يزالون أفراداً قادرين على ممارسة فعل التفكير السياسي، والانتماء إلى الوطن من بوابة الوعي والضمير.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى