
استطاعت قوى العولمة وأدواتها تحقيق تأثيرات سلبية عظيمة الشأن على عقل الشباب العربي وأجياله الجديدة؛ ليس فقط بفعل ما تمتلكه من إمكانيات هائلة وتقنيات مذهلة في الإغراء والجذب والتسويق؛ وإنما بتضافر عدة عوامل محلية ساندتها ووفرت لها الأجواء الملائمة في نفوس الشباب وعقولهم..
يمكن تلخيص أبرز هذه العوامل بما يلي:
1 – تعاون أصحاب النفوذ والسلطان المحليين مع الإستراتيجيات العامة للعولمة..فقد سهلت لها درب دخولها وتدخلها وغزوها للعقول حينما أباحت مجتمعاتها لقوى النفوذ الأجنبي تاركة الإنسان العربي مكشوفا أعزل في مواجهة قوى عاتية وغزو مدروس واستحقاقات آنية.
سهلت بما تملك من سلطة القانون والتشريع في اتخاذ إجراءات وإصدار قوانين في مجالات التعليم والتربية والتعبير والحريات العامة؛ ما شكل تكبيلا لقدرات الشباب النفسية والعقلية وإفساحا في المجال أمام تغلغل نفوذ قوى العولمة وفكرها ومفاهيمها وقيمها الفردية الاستهلاكية..
2 – الإحباطات المتتالية التي عاشها الشباب العربي منذ أربعة أو خمسة عقود ؛ نتيجة أحداث متنوعة وظواهر اجتماعية وسلوكية متعددة. فمن أول قمع الحريات ومصادرة الحق في التعبير والنقد والتفكير وصولا ألى شيوع الفساد وتسلق الفاسدين والمنافقين أعلى مراتب السلطة والنفوذ و ” الجاه ” والتميز بالاهتمام الإعلامي – الاجتماعي وقوة السطوة المالية – الاجتماعية نتيجة ما يملكونه من مال وسلطة وقدرة على الفعل والتأثير ؛ مرورا بخيبة عامة من الأحزاب السياسية ومجمل ما يسمى قوى التغيير أو فعالياته النخبوية ؛ بما ظهر فيها من أمراض النرجسية والأنانية والاستفادة الشخصية والحظوة العائلية وغير ذلك من الظواهر المنفرة والطاردة لكل تفكير حر وعقل واع ونفس أبية..
3 – غياب الرؤية العربية المتكاملة لمجمل تحديات المستقبل العربي ، لدى أصحاب القرار والنفوذ..يترجم هذا بغياب مشروع عربي لمواجهة الأخطار الآتية من تلك التحديات والرد عليها..فكان أن ترك الأنسان العربي والمجتمع بأكمله مستباحا للتأثير الخارجي والنفوذ الأجنبي ؛ فاقدا لأي غطاء من الحماية الرسمية والعامة ؛ متسلحا فقط بما يتمتع به من مواصفات شخصية هي حصيلة تربيته البيتية وإيمانه الديني ومقدار ما يحصله باجتهاده الشخصي من وعي مكتسب يمنحه بعض المناعة الذاتية وإن كانت لا تكفي في معظم الأحيان ليواجه منفردا تلك الأخطار والتحديات..اللهم إلا في نطاق ذاته الفردية..
إن مقارنة واقعية لحال الشباب العربي الآن – والمجتمعات العربية عموما – وحالها قبل نصف قرن ، تبين مدى التراجع الذي أصابها على كل المستويات رغم كل التقدم العلمي والتقنيات الحديثة الشاملة كل مناحي الحياة..
فما الذي حدث وتسبب بكل هذا التراجع ؟
كان لغياب مصر كرائد للمشروع التحرري العربي وكل ما صنعه من قوة تأثير ونفوذ وامتداد شعبي وأدوات ومصادر لبث المعرفة والوعي وتوجيه الخطاب المشترك وتحريك المشاعر وضبط الخطى بإتجاه النهضة والتقدم في عموم الوطن العربي ؛ أثر خطير في إحداث انكشاف المجتمعات العربية – والشباب العربي – أمام قوى التأثير الخارجي المعادي والمتمثل في رأسمالية العولمة الاستعمارية؛ ثم استباحتها من تلك القوى بعد أن فقدت الغطاء الحامي ومصادر البعث والتوجيه والإلهام..
لم تكن الخطورة أنها تركت دون حماية ودون غطاء رادع وموجه ، بل لأنها استبيحت من قوى الغزو الخارجي بتسهيل من قوة النفوذ المحلية ؛ الأمر الذي زاد من تغلغلها وعمق تأثيراتها السلبية وسرع امتدادها وتوسعها..
فقد كانت مصر قد انتقلت بثقلها الكامل بعد حرب 6 اوكتوبر 1973 مباشرة إلى الموقع النقيض الذي يخضع للنفوذ الأجنبي الغربي الاستعماري ويسهل له ويدعمه ويشاركه حروبه الموجهة لعقول الشباب ونفوسهم وتطلعاتهم والموجهة في ذات الوقت للمجتمعات العربية – والمجتمع المصري في طليعته – وهو ما كان له أعظم الأثر في الإحباط العام وتراجع العقل الجمعي المشترك وتصعيد العقل الفردي النفعي الإنتهازي..الأمر الذي مهد الطريق أمام غزو العولمة الرأسمالية فنجحت – أو تكاد – في تفكيك المجتمعات العربية كمقدمة لازمة لإسقاط مناعتها تمهيدا لإحكام سيطرة مستديمة عليها..
ثم كان سقوط العراق بقبضة الإحتلال الإستعماري وأدواته الإقليمية والمحلية سنة 2003 ، المحطة الأخيرة في إفتقاد العرب لموقع وطني – قومي صامد بوجه النفوذ الأجنبي وغزوه المستمر ؛ موقع يسخر طاقاته وإمكانياته للدفاع عن الوجود العربي في مواجهة أخطار الإحتلال الخارجي والتفتيت الداخلي تتولاه قوة معادية حليفة لأدوات الإمبريالية الإستعمارية المعولمة أو راغبة في مسايرتها للإستفادة من معاداتهما المشتركة للآمال العربية في التحرر والوحدة والتقدم..
خلاصة القول أن المجتمعات العربية قد أضحت مستباحة تماما من قوى الغزو الأجنبي ومفتوحة تماما أمام تأثيرات قوة العولمة وزخمها الثقافي الفكري والسلوكي..وهكذا تسارعت تأثيرات العولمة وتقنياتها حتى تكاد أن تخلق أجيالا عربية لا تنتمي إلا إلى ذاتها وحياتها الفردية الإستهلاكية وإهتماماتها الشخصية التي تفتقد الإرتباط بأية قضية عامة مشتركة وطنية أو قومية أو حتى إنسانية..وتلك هي أعلى مراتب اللا إنتماء وفقدان الهوية..وهي المرحلة الأخيرة والأخطر ؛ في إنتصار الغزو الرأسمالي المعولم وما يمثله من إنحلال أخلاقي وسلوكيات مشوهة وتلك هي ذروة الخطر على المستقبل العربي حينما يفقد الإنسان العربي معرفته ووعيه وقيمه الجامعة وبالتالي يكون قد تخلى طوعا عن إنتمائه ومتطلبات التعبير عنه ومخاطبته بمسؤولية واعية ومواجهة رادعة لما يحيط به من أخطار وتحديات..
## متى يكون ممكنا ، التخلي عن الإنتماء طوعا ؟
منذ أزمنة التاريخ الغابرة ؛ كانت الحروب التي تشنها القوى الأجنبية على المنطقة العربية تنتهي بتراجع والفشل وإعادة إستنهاض الإرادة العربية والعقل العربي الرافض للهزيمة..إن إصرار الإنسان على النهوض والتقدم هو المدخل لأي إنتصار بعد أي فشل أو هزيمة..هذا الإصرار يشغل موطنه ومصدره في وعي الإنسان وعقله وفكره ومن ثم إرادته التي تعبر عنه..ورغم كل الإنكسارات والهزائم التي تعرض لها العرب عبر التاريخ ؛ وما دفعوا فيها من أثمان باهظة في البنيان والإنسان والعمران ؛ إلا أن طلائع متقدمة واعية منهم وذات إرادة وتصميم كانت تعيد إستنهاضهم وتوحيد صفوفهم لإنتزاع نصر وتحقيق تقدم ..
أحدث مثال على هذا ما صنعه الوعي الجماعي المشترك بمقتضيات حماية الهوية وتعزيز الإنتماء ؛ هو تلك الحركة الشعبية العربية الهادرة التي تلت مباشرة نكسة 1967 ؛ معلنة تمسكها بتحقيق نصر وتعويض هزيمة بإرادة عظيمة وقدرة على النهوض وتحمل تبعات وخسائر النكسة ..فكان أن أعيد تنظيم صفوف الجماهير والقوات المسلحة وضبط إيقاع حركتها لتحويل الهزيمة إلى إنتصار..وهو ما تم فعليا..فكانت حرب الإستنزاف ( 1967 – 1970 ) وبعد حرب تشرين 1973 تأكيدا لهذا..لم يكن ليتحقق هذا لولا إمتلاك الجماعة لوعي عام مشتركة بحقيقة مصيرها الواحد ووجودها المرتبط به..
أدركت القوى الإستعمارية أنه ما لم يتم تغيير هيكلية العقل العربي وتفكيك بنيانه ومنظومة القيم الأخلاقية والإجتماعية التي يؤمن بها وتحركه وتضبط سلوكه ؛ وإزاحة مصادر قوته الإيمانية ومناعته القومية ؛ فإنها لن تتمكن من السيطرة عليها والتحكم به بشكل مستمر طويل الأمد..فلطاما أستعاد دوافعه وقدرته على النهوض والتحرر ما دام يحتفظ في وعيه وإرادته بتلك الكبرياء وذلك الشموخ والإعتزاز بأمته وهويته وتاريخه وقيمه الأخلاقية..أدركت هذا فحولت إستراتيجيات عملها إلى تفكيك شخصية الإنسان بعد إفقاده لمناعته الذاتية والعامة وصناعة وعي مزيف تمهد لتخليه الطوعي عن إنتمائه بعد أن يكون قد فقد معرفته بهويته فتخلى عنها وعن متطلبات تحريرها وحمايتها وترسيخ ثوابتها ومقوماتها..
وهذا ما تفعله العولمة الرأسمالية فتوجه حروبها إلى شخصية الإنسان ذاته لتنهار من الداخل فيفقد رغبته في التحرر وقدرته على تحقيقه..لتصبح له إهتمامات فردية غرائزية إستهلاكية تبعده عن لزوميات التعبير عن هويته وإنتمائه..
ولقد تفننت وبرعت قوى العولمة وأدواتها في الوصول إلى هذا الهدف..
## كيف ، متى ، ولماذا نجحت في التخلي الطوعي لأجيال من الشباب العربي عن وعيه بهويته وانتمائه والتزامه بهما ؟؟
قلنا إنها سلكت سبلا متنوعة متكاملة لتحقيق هذا الهدف الجلل بدءا من ضرب مناعته الجماعية ثم الفردية، ثم تفكيك مجتمعه وكيانه الجامع والموجه الفاعل لسلوكه؛ ثم تفكيك أسرته وتغييب سلطة الدولة وأنظمتها التعليمية والتربوية وصولا إلى هدر قيمه الأخلاقية – الاجتماعية ..مع ملاحظة هامة جدا تفيد ما يلي :
## ليس بالضرورة أن يكون الإنسان اللا منتمي ؛ إنسانا فاسدا سلوكيا في عمله وحياته وإجتماعياته ..فقد يكون مستقيما في تعامله محترما لذاته وغيره .وقد يكون مؤمنا متدينا يصوم ويصلي ولا يؤذي أحدا..ومع ذلك لا ينتمي إلا لذاته وحياته الشخصية واهتماماته الخاصة ..
فليس مهما لفكر العولمة أن يبقى الإنسان المعولم مستقيما في سلوكه الفردي..طالما أنه لا ينتمي إلا لذاته..
وهي تفضل بالتأكيد أن يكون فاسدا بمعنى مستغرقا في فكرها المادي ورغبته الملحة في كسب المال بصرف النظر عن وسيلته في ذلك. بكل طرق الكسب الملتوية وغير المشروعة..
## في ظل فكر العولمة لا يرتقي ماديا ووظيفيا حتى يكتسب النفوذ والسلطة ويصبح رمزا للتقدم وقدوة لغيره في ” النجاح ” ما لم يكن ملتويا فاسدا تابعا لها ومرتهن لإرادتها وتوجيهاتها.
أما من يبقى مستقيما في سلوكه الفردي فيبقى في قاع سلم الدرجات الوظيفية والمهنية والمالية..
كيف استطاعت – إذن – قوى العولمة تفكيك المجتمعات العربية؟؟
– يتبع ..






