العلاقات التركية القطرية والتوازنات الجديدة في المنطقة

   محمود سمير الرنتيسي

تتميز العلاقات بين تركيا وقطر بعدة مزايا، أهمها الانسجام الواضح في التعاطي مع مختلف القضايا الخارجية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو خارجها.

ومنذ عام 2009 بدأت تتضح إمكانية عمل البلدين معًا وتعاونهما من أجل إنجاح قضايا محددة، وتطورت العلاقات في عام 2014 لتصل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، حيث وقّع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية، وتم إنشاء اللجنة الاستراتيجية العليا، وقد وقّع الجانبان أكثر من مئة اتفاقية في مختلف المجالات، من الدفاع إلى الاقتصاد والطاقة، وصولًا إلى الفن والرياضة والثقافة.

إذا ما نظرنا إلى أكثر القضايا حيوية في المنطقة، وهي القضية الفلسطينية، سنجد أن موقف تركيا وقطر منها متقارب ويكاد يصل إلى التطابق في دعم الشعب الفلسطيني وحقوقه وإنشاء دولته، وفي البقاء على مسافة واحدة من كافة الأطراف والفصائل الفلسطينية. ولا تقوم الدولتان بأي دور سلبي يعبث في السياسة الداخلية الفلسطينية، كما أن الدولتين ناقدتان بشدة لسياسة دولة الاحتلال الإسرائيلي.

إن كانت تركيا دخلت متأخرة بشكل رسمي على ملف الوساطة، إلا أن الدبلوماسية التركية لم تكن غائبة، بل كانت حاضرة ومنخرطة في جميع الجهود لوقف حرب الإبادة الجماعية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.

وفي حرب الإبادة الجماعية التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، قامت كلٌّ من قطر وتركيا بلعب دور الوساطة من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار. لقد طالبت حركة حماس منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة بدخول قطر كوسيط وكضامن، ولكن الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية في عهد جو بايدن كانا يرفضان دخول تركيا بشكل رسمي على خط الوساطة.

وقد عملت تركيا على التنسيق واللقاءات المباشرة مع المسؤولين من دولة قطر ومع قيادة حركة حماس من أجل دعم عملية التوصل إلى وقف إطلاق النار، وكان واضحًا اشتراك القنوات الاستخبارية والدبلوماسية بين تركيا وقطر في عملية التعاون والتنسيق بخصوص هذه القضية. وفي حين أدارت قطر خطوط الاتصال المباشر مع حماس وبقية الفصائل الفلسطينية في الدوحة، وفّرت تركيا شبكة ضغط دبلوماسية في أكثر من مساحة عمل.

وبالتأكيد كان هناك تعاون تركي قطري تحديدًا في المراحل الأخيرة التي تم التوصل فيها إلى اتفاق وقف إطلاق النار، خاصة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يملك علاقات ممتازة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويكاد أردوغان يكون زعيم الدولة الأكثر قدرة على إقناع الرئيس الأميركي، وقد ذكر الرئيس ترمب ذلك في أكثر من مناسبة.

وفي 9 سبتمبر، عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية الوفد المفاوض لحركة حماس في الدوحة، والذي كان مجتمعًا لنقاش مقترح الرئيس دونالد ترامب لوقف إطلاق النار، تفاعلت تركيا مع هذا الحدث، إذ دان الرئيس أردوغان الهجوم الإسرائيلي بشدة واعتبره انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة قطر، وأكد أن تركيا تقف بكل إمكاناتها إلى جانب الدوحة باعتبارها شريكة استراتيجية وحليفة قريبة. ودعت وزارة الخارجية التركية إلى محاسبة إسرائيل على جرائمها ضد دولة تلعب دورًا رئيسًا في الوساطة من أجل تحقيق وقف إطلاق النار.

وبحكم علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة، كثّفت أنقرة جهودها الدبلوماسية مع البيت الأبيض، وتم التنسيق من أجل ضمان عدم استهداف سيادة قطر أو أي دولة خليجية، وضرورة إلزام دولة الاحتلال الإسرائيلي بالقانون الدولي. وبالتالي وقفت تركيا موقفًا داعمًا لقطر، معتبرة أن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة يهدد الأمن الإقليمي، وقد أدى هذا الموقف الحاسم، بجانب مواقف دول أخرى، إلى تغيير في الموقف الأميركي الذي شعر بالحرج مما قامت به إسرائيل وحاول أن ينأى بنفسه عن هذا الحدث.

وإن كانت تركيا دخلت متأخرة بشكل رسمي على ملف الوساطة، إلا أن الدبلوماسية التركية لم تكن غائبة، بل كانت حاضرة ومنخرطة في جميع الجهود لوقف حرب الإبادة الجماعية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. ولكن، كما نرى ونتابع، وبالرغم من التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه في شرم الشيخ في مصر، إلا أن رئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يزال يعيق كل الجهود التي تسعى لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وقد قام مؤخرًا بمنع دخول الوفد التركي الفني الذي كان متجهًا إلى غزة للمساعدة في إخراج الجثث الموجودة تحت الأنقاض والكمّ الهائل من الدمار الذي تسببت به دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الجانب الآخر، وفي قضية مهمة أيضًا، فإن موقف الدولتين من التطورات في سوريا منذ عام 2010 متشابه تقريبًا، وحتى منذ سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024 نجد أن هناك تنسيقًا كبيرًا بين تركيا وقطر في دعم بناء الدولة السورية وفي تحقيق الاستقرار ووحدة أراضي سوريا. تعد تركيا وقطر فاعلين أساسيين في سوريا الجديدة عبر التعاون السياسي والاقتصادي والأمني الكبير. تدعم كلٌّ من تركيا وقطر العملية السياسية الجارية في سوريا، وخاصة دمج مختلف القوى المدنية، وترفضان التدخل الخارجي. وفي حين تلعب تركيا دورًا أكثر نشاطًا في البعد الأمني بحكم القرب الجغرافي وانخراطها في تثبيت الأمن وضبط الحدود، فإن قطر تلعب دورًا دبلوماسيًا مساندًا في إعادة تأهيل الدولة ومكانتها في البيئة الدولية، كما أنها تلعب دورًا مهمًا جدًا في تمويل مشاريع البنية التحتية، وقد قدمت دعمًا تجاوز ثلاثة مليارات دولار لدعم مشاريع في مجالات المياه والطاقة والإسكان والطرق والإعلام وغيرها.

إن زيارة أردوغان الأخيرة للدوحة تأتي في سياق إقليمي مهم، وتؤكد على استمرار الشراكة والتنسيق بين الدولتين، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وسوريا.

زيارة أردوغان للدوحة

ضمن جولة خليجية شملت الكويت وعُمان، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدوحة في 22 أكتوبر 2026. وبالتأكيد، إلى جانب التعاون الثنائي التقليدي في جميع مجالات العلاقات بين البلدين، كانت الزيارة في سياق وضع إقليمي جديد بعد الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزة، وخاصة في ظل وجود قلق من رغبة حكومة الاحتلال الإسرائيلي في تخريب هذا الاتفاق. ومن المؤكد أن تنسيق الجهود بين الطرفين كان حاضرًا فيما يتعلق بمستقبل غزة، سواء في عملية إعادة الإعمار أو في شكل الإدارة الجديدة لقطاع غزة وتواجد القوات الدولية، وهي المواضيع المحورية التي ستكون على الأجندة بشكل كثيف في الأسابيع القريبة القادمة.

كما ذكرنا في مقال سابق، فإن قيام الاحتلال الإسرائيلي بقصف الدوحة كان نقطة تحول ليس فقط فيما يتعلق بتطورات الأوضاع في غزة فحسب، بل في التصورات الأمنية والدفاعية في دول الخليج. وكان متوقعًا أن يكون هناك تعاون أكبر مع أطراف أخرى عدا عن الولايات المتحدة، وتعد تركيا أحد أقوى المرشحين للتعاون الدفاعي والأمني مع معظم دول الخليج، وخاصة قطر. وبالتالي لم يكن غريبًا أن تشهد زيارة أردوغان الأخيرة للدوحة توقيع مذكرتي تفاهم في مجال التعاون الدفاعي والصناعات العسكرية، في إطار انعقاد الدورة الحادية عشرة للجنة الاستراتيجية العليا التركية القطرية، والتي شملت توقيع عدة اتفاقيات.

يمكن القول إن زيارة أردوغان الأخيرة للدوحة تأتي في سياق إقليمي مهم، وتؤكد على استمرار الشراكة والتنسيق بين الدولتين، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وسوريا، كما أنها تشير إلى استمرار سعي تركيا في لعب دور فاعل في بناء التوازنات الجديدة في المنطقة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى