المواطنة في بلد مزدحم بالمصطلحات

سميرة المسالمة

                                                                                                 

خلال الأشهر التسعة الماضية، وبينما كانت الدولة السورية الجديدة تحاول أن تتشكل بعد حربٍ استمرت 14 سنة، وبعد عقود من الفساد الممنهج، بدأ الاحتدام حول المصطلحات المتداولة في الواقع السياسي السوري، ليس فقط بين بعض التجمّعات الطائفية وعدة مثقفين من جهة، والدولة الناشئة من جهة مقابلة، بل بين عناصر السلطة نفسها القادمين من خلفياتٍ مختلفة، ما زاد الطين بلة. ما يعني أننا أمام خلافاتٍ على مستويات متعددة، ربما حُسم بعضها على الأقل داخل السلطة نفسها أو من أعلاها، عندما قرّر الرئيس أحمد الشرع التأكيد أنه ليس امتداداً للأحزاب الإسلامية والجهادية أو للربيع العربي. هذه قطيعة تنهي آمال بعض المنضوين في عباءة السلطة من المرجعية السلفية والجهادية في أخذ البلاد إلى حدود إمارتهم الإسلامية، لكنها أيضاً تقطع مع مصطلحاتٍ تداولها “الربيع العربي”، أي إنها ليست انقلاباً “معدياً” للشعوب على الأنظمة القائمة.

يعكس هذا المشهد المليء بالجدل حقيقة أن سورية اليوم ليست فقط أمام تحدّي إعادة الإعمار المادي، بل أمام معركة تعريفية عميقة للمصطلحات التي ستشكل هويتها السياسية والاجتماعية، فالصراع لم يعد عسكريّاً بين النظام الأسدي والمعارضة، كما كان في السنوات الماضية، بل تحوّل إلى عدة صراعات، أحدها “المسلحة”، إضافة إلى الصراع حول المرجعيات التي ينبغي أن تؤسّس عليها الدولة: هل هي دولة تستند إلى الشرعية الدينية، أم إلى شعارات الثورات، أم أنها تتجه نحو صيغة جديدة يمكن أن توازن بين مكوناتها المتنوعة؟

لا تُبنى الدولة على ولاءاتٍ ضيقة، ولا على شعاراتٍ عابرة، بل على قاعدة العدالة والمساواة التي تكفل لكل مواطنٍ حقوقه كاملة

وسط هذا التنازع على المصطلحات والمرجعيات، يظلّ مفهوم المواطنة الغائب الحاضر. وربما هو المنقذ، فهو المصطلح الذي يملك القدرة على تجاوز الخلافات النظرية، إذا استطاعت السلطة الجديدة أن تجعله المضمون النهائي الذي يجب أن يتحوّل إلى ممارسة فعلية تترجم في حياة الناس. فالمواطنة تعني حقوقاً متساوية، وأن الدولة لا تُبنى على ولاءاتٍ ضيقة، ولا على شعاراتٍ عابرة، بل على قاعدة العدالة والمساواة التي تكفل لكل مواطنٍ حقوقه كاملة، من تعليم وصحة وفرص عمل ومشاركة سياسية، بصرف النظر عن دينه أو طائفته أو خلفيته.

بالطبع، لا يتحقق هذا الأمر بكبسة زر تلغي ما ورثته السلطة الحالية من واقع مجتمعي مدمّر، وما تابعته الأحداث اللاحقة للتحرير في 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024) بتحريض مفتعل من نظام مهزوم وقوى داعمة له، لزعزعة الاستقرار المجتمعي لضمان استمرار الفوضى التي تقوّض بناء الدولة. ويتطلب تحقيق ذلك أساساً أن تضع السلطة الناشئة قواعد واضحة لقطيعتها مع إرث السلطة السابقة التي كرّست الفساد والإقصاء. ومن جهة أخرى، يتطلب القطيعة الحاسمة مع المرجعيات المتشدّدة أيضاً، التي تحاول بعض الأطراف استحضارها من جديد، لمواجهة التغيير الخارج عن سيطرتها. كذلك يتطلب من المجتمع المدني والمثقفين تجاوز دور الرافض سلفاً أو المتلقّي الصامت، والانتقال إلى المشاركة الفاعلة في صياغة خطابٍ بديلٍ يعزّز فكرة المواطنة بوصفها الهوية الوطنية الأوسع.

المواطن الذي فقد ثقته بالدولة عقوداً طويلة من التمييز والفساد، لن يقتنع بخطاب سياسي مجرّد، بل بما يلمسه من تغييراتٍ حقيقيةٍ في حياته

ما يثير القلق أن استمرار النقاش عند مستوى “المصطلحات” قد يعوق الانتقال إلى مستوى “الممارسات”، فالمواطن الذي فقد ثقته بالدولة عقوداً طويلة من التمييز والفساد، لن يقتنع بخطاب سياسي مجرّد، بل بما يلمسه من تغييراتٍ حقيقيةٍ في حياته. لذلك يحتاج الحديث عن المواطنة ترجمة فورية في بنى القانون والمؤسّسات، بحيث يشعر الفرد بأن حقوقه مصونة، وأنه ليس مضطرّاً إلى احتماء طائفي أو مناطقي كي ينال ما يستحقه من الدولة.

علمتنا الحرب الطويلة أن غياب المواطنة هو ما فتح الباب أمام الانقسامات والصراعات، فعندما تحوّل الولاء إلى الطائفة أو الجماعة بدلاً من الدولة، تراجع الانتماء الوطني، وتفتّت النسيج الاجتماعي. أما إذا أُعيد الاعتبار إلى المواطنة، فإنها ستعيد اللحمة الوطنية، وتعيد توجيه الولاء نحو الدولة باعتبارها البيت المشترك لجميع السوريين.

لذلك ليس النقاش الفكري الراهن عبئاً، بل هو فرصة “سورية” لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع. وإذا تمكّنت السلطة من السير على طريق بناء دولة مدنية عادلة، وشارك المجتمع بدوره في تعزيز قيم المواطنة بدلاً من الانغلاق على الهويات الضيقة، يمكن أن يولد عقد اجتماعي جديد، ينهي مرحلة التشتت والاتهامات المتبادلة، لكن ذلك كله أيضاً مشروط بتنظيم المجتمع المدني نفسه، وبقبول السلطة وجوده، ويقابله بقبول المجتمع سلطة قانون تنظمه، وليس مرجعية طائفية تغلق حدوده وتضعه في مواجهة بعضه بعضاً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى