سورية بين الإنهاك والنهضة.. حين يلتقي الاقتصاد بالتصالح الوطني

صفوان جمّو 

                                                                                                  

تمر سوريا اليوم بلحظة فارقة، كأنها تقف على أعتاب فصل جديد من تاريخها الطويل. فبعد سنوات مثقلة بالحرب والدمار والشتات، لم يعد جوهر السؤال مرتبطاً فقط بالسياسة أو الصراع على السلطة، بل بات السؤال الأعمق: كيف يمكن إعادة بناء البيت السوري بحيث يصبح صالحاً للحياة، وكيف يمكن أن يشعر كل فرد بأن له مكاناً ودوراً في المستقبل القادم؟

المدخل إلى هذا المستقبل لا يخفى على أحد: الاقتصاد. فالمجتمع الذي استنزفته الحرب، وأفقدت الملايين من أبنائه سبل العيش الكريم، لا يمكن أن يستعيد توازنه إلا من خلال نهوض اقتصادي يعيد الحركة إلى الأسواق، ويفتح أبواب العمل، ويمنح الناس فرصة العيش بكرامة. ومن اللافت أن السلطة الحالية تدرك أهمية هذا البعد، فباتت تولي اهتماماً متزايداً بالمشاريع الاقتصادية، وتسعى لإعادة ربط البلاد بمحيطها التجاري، وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي. صحيح أن هذه الخطوات ما زالت محدودة أمام حجم الخسائر، لكنها تحمل رسالة واضحة: أن المستقبل لا يُبنى بالشعارات وحدها، بل بالعمل والإنجاز الملموس.

لكن أي تعافٍ اقتصادي سيظل هشّاً إذا لم يترافق مع حلول سياسية متوازنة. فالثقة الوطنية هي الأساس، وهي ما يعطي لأي مشروع اقتصادي معنى وعمقاً. ولا يمكن تحقيق هذه الثقة من دون مواجهة الملفات الكبرى التي بقيت مؤجلة: العلاقة المعقدة مع قوى الشمال الشرقي، القلق المزمن في السويداء، والوضع الخاص في الساحل. هذه ليست قضايا جغرافية فحسب، بل جروح حقيقية في الجسد السوري، تحتاج إلى مقاربة شجاعة وحوار صادق. وحده الحوار القائم على الاعتراف بالحقوق والضمانات المتبادلة يمكنه أن يخفف من وطأة هذه الجروح، وأن يحول الاقتصاد إلى رافعة استقرار حقيقية، لا مجرد واجهة مؤقتة.

إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس عودة إلى صيغ الماضي ولا إعادة إنتاج التجارب العقائدية المغلقة، سواء لبست ثوباً دينياً أو أيديولوجياً. تلك التجارب لم تجلب للمنطقة سوى العزلة والتراجع. وحده الانفتاح، سياسياً واقتصادياً، هو الذي يعيد لسوريا دورها الطبيعي: جسراً بين الشرق والغرب، ومكاناً تلتقي فيه المصالح بدلاً من أن تتصادم.

المصالحة الوطنية، على كل مستوياتها، ليست شعاراً للاستهلاك السياسي، بل شرط وجود. فالاقتصاد يمكن أن يوفّر الخبز والعمل، لكن السياسة الرشيدة وحدها قادرة على أن تمنح الناس الأمان والثقة. وعندما يلتقي الاثنان معاً – الاقتصاد والسياسة – يبدأ التعافي الحقيقي.

قد تبدو المهمة شاقة، لكن لحظات الإنهاك الكبرى تفتح أحياناً أبواباً جديدة. وربما تكون هذه اللحظة فرصة كي يطلّ السوريون على أنفسهم من جديد. نعم، سوريا قادرة على أن تنهض، شرط أن يمد أبناؤها أيديهم لبعضهم بعضاً، وأن يضعوا المستقبل المشترك فوق كل الحسابات الضيقة. وحدها التنازلات المتبادلة، حين تليق بالوطن وتاريخه، يمكن أن تعيد للبلد حياته، وتكتب فصلاً جديداً أقل وجعاً وأكثر أملاً.

المصدر: نينار برس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى