
ربما لم يعد معظم الناس في سوريا يخافون من رصاص القناص الذي كان يتربص بهم، أو من دورية الأمن التي ستعتقلهم، بقدر ما يخافون اليوم من كلمة “الجار الوطني” الطائشة. ولا يخشون دويّ انفجار البراميل، بقدر ما توجعهم وتقلقهم الأخبار الكاذبة والشائعات الغامضة التي تسمم حياتهم كل لحظة.
تغيّر شكل الخوف، لكنه لم يغادر بيوت السوريين. سقط نظام الأسد قبل شهور، ومع ذلك ما زال الأمان بمعظم معانيه مفقوداً. الأمان النفسي والاجتماعي والسياسي. وهو أمر لا تعوّضه الجيوش ولا الحواجز ولا بيانات النصر. انتهت الحرب بمعناها العسكري المباشر، ومع ذلك لم يشعر أغلبنا أن السلام قد بدأ. يعيش السوريون اليوم قلقاً مركباً: خوف من عودة الماضي المظلم بشكلٍ ما، وخوف من مستقبل غامض لا يتبينون ملامحه بعد. بعبارة أخرى، هذا النوع من السلام، على جزء من الأراضي السورية، لم يترجم إلى طمأنينة وطنية عامة.
إن كثيراً من وجوه المعارضة الجديدة يكررون ذات اللغة التي اعتادها السوريون من السلطة القديمة: لغة التخوين، الصراخ، اليقينيات المطلقة والمغلقة.
وبالتأكيد فإن الأمان، النفسي خصوصاً، لا يمكن أن يُبنى بالوعود الوفيرة ولا بالشعارات الثورية، بل بخطاب سياسي رصين، بقرارات واقعية، وبمساحة حوار لا يشعر فيها المواطن السوري، أي مواطن، أنه مُهدَّد. فلدى الناس ليس هناك من قيمة أن تُحكم المدن، إن ظلّت نفوس معظم السوريين مقيدة بالخوف وبالشك بالمستقبل. تصريحات بعض الناشطين الجدد ضد المختلفين معهم في الرأي تكاد تكون نسخة عن بيانات الأجهزة الحزبية والأمنية في التسعينيات، من حيث لغة التخوين والتشكيك بالمختلِف. والدعوات التي تظهر أحياناً مطالبةً بتطهير المؤسسات بصيغة شاملة تشبه تماماً شعار الأسد حول “سوريا المتجانسة”، وكأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه بشعارات تستلهم من قاموس جحيم الأسد.
المفارقة المؤلمة في هذا المقام، ولكن من الضفّة المقابلة، أن كثيراً من وجوه المعارضة الجديدة يكررون ذات اللغة التي اعتادها السوريون من السلطة القديمة: لغة التخوين، الصراخ، اليقينيات المطلقة والمغلقة. فبدلاً من أن تكون المعارضة مدرسة بديلة في الانفتاح، تحولت أحياناً إلى مرآة تعكس إلى حدٍّ كبير، صورة النظام السابق بغير ملامح وأحياناً بملامح مشابهة. والنتيجة أن المجتمع يجد نفسه عالقاً بين صورتين متشابهتين: سلطة تتحدث باسم الاستقرار على حساب العدالة والمواطنة والتمثيل الديمقراطي العادل، ومعارضة ترفع شعار الحرية بمفردات تنطوي على التخوين واحتقار المختلف ومحاولة تحطيمه. في الحالتين، يغيب، إلا فيما ندر، الخطاب الرصين: خطاب الطمأنة، خطاب الدولة المدنية، خطاب المواطنة الذي يتسع للجميع. خطابٌ بدونه، لن يثق السوريون لا بالسلطة ولا بالمعارضة، وسيبقى الخوف وتبقى الهواجس تحكم حياتهم اليومية.
في هذا السياق، لا يمكن فصل مسألة الأمان النفسي عن بنية الدولة المقبلة. فغياب المؤسسات المحايدة، المستقلة عن الاستقطاب الحزبي والطائفي، يجعل أي خطاب مطمئن مجرد وعد شفوي لا أثر له في الواقع. المواطن السوري يحتاج إلى قضاءٍ نزيه يحميه من تعسّف السلطة، وإلى إدارة محلية لا تخضع لسطوة الزعيم أو الشيخ أو القائد العسكري، وإلى إعلام حرّ يكشف الحقائق بدلاً من أن يروّج لها بحسب مصلحة المموِّل. مثل هذه
الضمانات المؤسسية وغيرها، هي التي تحول الطمأنة من كلام إلى سياسة، ومن شعار إلى ممارسة يومية يشعر بها الناس في مدارسهم ومستشفياتهم ومحاكمهم.
حين يغيب الأمان النفسي والسياسي، تزدهر الشائعة. يكفي اليوم أن يُكتب خبر كاذب على إحدى وسائل التواصل، حتى يتحول إلى حقيقة قاتلة. الشائعة اليوم لا تكتفي بتشويه صورة الخصم، بل تبني واقعاً بديلاً: تخلق أعداء وهميين، وتزرع الشك في كل جهد بنّاء. في بعض المناطق، صار وقع الشائعة أخطر من وقع الانفجار، فهي تُفجّر علاقات الجيران، وتُدخل الناس في دوامة من الريبة والخوف المتبادل. والأسوأ أن بعض القوى السياسية والطائفية تتعمد اختراع الأخبار لا لإيصال الحقيقة، بل للتعويض عن غيابها، فيغدو المجتمع المقصود بالخبر محكوماً بالوهم بدل الوقائع.
سوريا اليوم لا تحتاج إلى جيوش جديدة، ولا إلى سلطة تتحدث بلغة قديمة. ما تحتاجه حقاً هو عقد اجتماعي جديد يمنح الناس الأمان، ويحصّن المجتمع من رصاص الشائعة قبل رصاص الكلاشينكوف.
إن التجارب الدولية القريبة والبعيدة تؤكد أن الأمان النفسي لا ينشأ في فراغ، بل في ظل عقد سياسي يُشرك المواطنين ولا يُقصيهم. جميع التجارب الناجحة تؤكد أن تجاوز الماضي لم ينجح بالخطب والشعارات، لكن نجح بآليات عدالة انتقالية أنصتت إلى الضحايا والجناة معاً، وأعادت تعريف المواطنة على أسس جديدة. بينما تتقاطع التجارب الفاشلة عند نقطة مركزية وهي أنها أعادت تدوير نفس النخب ونفس الخطاب الأمني والسياسي. وكل الخطر اليوم، أن يسلك السوريون هذا الطريق، فنرى تغييراً للأشخاص مع ترك كامل البنية الفكرية المنتجة للخوف كما هي. وفي الجهة المقابلة نرى من يفرد الخرائط ويتحدث عن التقسيم والحدود الجديدة، عوضاً عن الحديث حول العدالة وجبر قلوب المتضررين.
سوريا اليوم لا تحتاج إلى جيوش جديدة، ولا إلى سلطة تتحدث بلغة قديمة. ما تحتاجه حقاً هو عقد اجتماعي جديد يمنح الناس الأمان، ويحصّن المجتمع من رصاص الشائعة قبل رصاص الكلاشينكوف. المستقبل السوري لن يُبنى عبر مخاض مكرر يتم استيلاده من رحمٍ يشبه الحقب السابقة، بل بالكلمة التي تستشرف المستقبل، والخطاب الذي يُطمئن، والصدق الذي يُعيد الأمل إلى الناس. فالبلد الذي لم يعرف بعد طمأنينة النفوس لن ينهض مهما علا صوته بالشعارات أو الآمال الزائفة. سوريا اليوم بأشد الحاجة إلى من يُعيد إليها الثقة بأنها ستغدو وطناً لأبنائها، لا إلى من يُعيد إنتاج الخوف.
المصدر: تلفزيون سوريا