” ممرّ داود” والخيال الجيوسياسي الخلاق

    فاطمة ياسين

لا يوجد ممرّ داود تاريخي، لكن المصطلح استعار اسم النبي داود، مُستشهداً بفتوحاته التوراتية في جنوب سورية، ومستوحياً من إرث هذا الشخص الذي يعتبره اليهود ملكاً، ويصفونه بالقائد الفذّ والمحارب الصلب، ويقدّمون حكايته بشكلٍ يتوافق مع الرؤى الصهيونية للشرعية التاريخية. ولكن المصطلح يُستخدم حالياً للإشارة إلى مشروع “مواصلات” ذي طبيعة جيوسياسية، والهدف منه إنشاء كوريدور برّي يمتد من مرتفعات الجولان السوري المحتل، مروراً بمناطق الجنوب (القنيطرة ودرعا والسويداء) ليصعد شرقاً ويقطع البادية، ويصل إلى مكان تمركز القوات الأميركية في نقطة “التنف”، ثم الاستمرار صعوداً نحو شرق الفرات لقطع محافظة دير الزور والوصول إلى الحدود العراقية، وربما إلى إقليم كردستان هناك. الهدف المفترض لهذا الممرّ (المزعوم) تعزيز النفوذ الجيوسياسي لإسرائيل في المنطقة، عبر ربطها بخطوط إمداد استراتيجية ومصالح اقتصادية، مثل نقل النفط من مناطق كردية غنيّة بالموارد إلى موانئ إسرائيلية على البحر المتوسّط. ويُنظر إلى المشروع أيضاً على أنه جزء من رؤية أوسع تُعرف بـ”إسرائيل الكبرى” التي أشار إليها نتنياهو الأسبوع الماضي، وهي فكرة ترتبط تاريخياً بالطموحات الصهيونية التي تستند إلى سردياتٍ توراتيةٍ عن دولةٍ تمتدّ من نهر النيل إلى نهر الفرات، ويمكن إعادة التفكير فيها، وإنْ أتت اليوم تحت عناوين أمنية أو إنسانية.

ابتعد بشّار الأسد في سنوات حكمه أخيراً عن هذا الكوريدور، فوافق برعاية دولٍ حليفةٍ له على الاكتفاء بما سمّيت حينها “سورية المفيدة” التي تترك مناطق “الممرّ” لمصيرها تعاني من فراغاتٍ وتملأها قوى محلية تدير أمرها بصعوبة، مع محاولة فرض حصارٍ عليها، وبعد سقوطه حدثت توتّرات سياسية وعسكرية تركّزت في مدينة السويداء وما يحيط بها، بدأت بنزاع مسلح بين فصائل درزية وعشائر بدوية سُنية تقيم حول المدينة وتتوزّع على قراها، تدخلت لفضه قوات الأمن العام تحت وابلٍ من قصف الطائرات الإسرائيلية، وأدّى سقوط ضحايا كثيرين إلى انفجار مشاعر الغضب لدى كل الأطراف، وصولاً إلى اتفاق يقضي بخروج القوات الرسمية من السويداء وبقائها على أطراف المدينة ورعاية إدخال مساعداتٍ لسكّانها بالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر.

وشهدنا بعدها خروج متظاهرين في السويداء يوم السبت، رفَع بعض الموجودين بينهم أعلاماً وشعاراتٍ إسرائيلية أثارت تساؤلات بشأن نيّات حامليها، وفيما إن كانت مرتّبة مع الجانب الإسرائيلي، أو أنها مجرّد دعواتٍ رفعها طامعون في التقارب مع إسرائيل لتوفير الحماية أو الحكم الذاتي لهم، أو أن حامليها مجرّد غاضبين مستائين من كل شيء. وفي كل الأحوال، منح هذا الحدث لمصطلح “ممرّ داود” زخماً جديداً، تغذّيه تحرّكات إسرائيل العسكرية في الجنوب السوري، وتوغّلاتها المتكرّرة بحجج أمنية غير مقنعة.

تتقاطع التكهنات حول “الممرّ” مع فكرة “تفكيك سورية” التي تلازم الرؤية الإسرائيلية، وقد جرى تداولها في التحليلات لتفسير سياسات إسرائيل في المنطقة بهدف التصدّي لـ”جالوت” الضخم، أو النفوذ المعادي لها الممتد من تركيا نحو سورية حتى حدود الدولة العبرية. ويمكن لهذا المعبر، إن وجد، أن يحول سورية الحالية إلى تجمّعات مفكّكة غير قادرة على العيش مع بعضها، ولا حتى بشكلٍ منفرد، وقد تضطرّ إلى طلب المساعدة من الخارج بشكل متكرّر، مع إمكانية نشوب نزاعات مذهبية من السهل تغذيتها وإدامتها فترة طويلة جدّاً.

مع ذلك، تنفيذ إسرائيل مشروع سيطرة بالحجم الذي تتحدّث عنه الأسطورة شديد الصعوبة، فالممر واسع جداً، ويدخل في محافظات كثيفة السكان، ولا تحمل مشاعر ودّية نحو إسرائيل التي تحكم كياناً صغيراً لا يملك أعداداً كافية للإدارة والسيطرة على مساحة كتلك، بالإضافة إلى الوجود التركي المتيقظ في الشمال، الذي يعادي أي مشروع يهدف إلى تغيير الحدود القائمة، ومصلحة تركيا ومعظم دول الجوار ببقاء الدولة السورية بشكلها الحالي، من دون وجود مثل هذا الطريق الملتبس على حدودها المباشرة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى