
ـ تشهد سورية اليوم مرحلة جديدة من التداعيات السياسية والأمنية الخطيرة التي تهدد وحدة التراب السوري ، حيث يبدو أن المشهد يتسارع وفق مخطط وسيناريو خبيث ، يهدف إلى إعادة تشكيل ملامح الدولة والمجتمع السوري على أسسٍ إثنية وطائفية وعرقية ومذهبية ، وذلك من خلال دفع باقي مكونات الشعب السوري نحو قناعة تدريجية مفادها استحالة التوافق والتعايش السلمي مع المكوّن الرئيسي الذي يقود السلطة اليوم في البلاد
ـ ومن يتابع تطورات الأحداث السياسية والتحولات المتسارعة في المنطقة ، يدرك تمامًا أن المخطط الجاري تنفيذه في سورية ولبنان بشكل خاص ، وفي المنطقة بشكل عام ، إنما يهدف إلى وضع المكون الرئيسي في مواجهة مباشرة مع قوى التطرف الطائفي إقليميًا ، بحيث تتبدل الأدوار وتبدأ دوامة العنف المفتوحة التي لم تتوقف بعد. حيث تؤدي هذه الدوامة إلى مزيد من الشحن الطائفي والتطرف ، وصولًا إلى الحروب والدمار، ورائحة الدماء والجثث ، في تماهٍ واضح مع التكتيك السياسي الأمريكي والرؤية الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز وتبرير الحاجة إلى وصاية خارجية لإعادة ترتيب البيت السوري ، وإعادة توزيع الأدوار الإقليمية بما يخدم مصالح الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي ، ويضمن بقاء سورية دولة هشة وضعيفة ، عاجزة عن إدارة شؤونها ، أو حل مشاكلها الداخلية ، أو صياغة سياساتها الخارجية
ـ وإذا ما أجرينا مراجعة سريعة لمسار الأحداث منذ انطلاق مرحلة ” تحرير سورية من قبضة النظام البائد “، يتّضح أن ما جرى ويجري حاليًا ليس وليد الصدفة ، ولا نتيجة تخبّط سياسي أو غيابٍ للحكمة في المعالجة ، بل هو نتاج بوتقة ضغط سياسية أمريكية ممنهجة تدفع البلاد عنوة نحو أحداث دامية تمتد من الساحل إلى السويداء ، مرورًا بتوترات الشمال والشرق ، والتي تنذر بكارثة إنسانية جديدة إن لم يتم احتواؤها بحكمة وسرعة
ـ لقد ساهمت هذه الأحداث وغيرها ، باختلاف مستوياتها ، في تعميق الاحتقان الداخلي ، وأسهمت تدريجيًا في تكريس انقسامات ليست عمودية فحسب ، بل أفقية أيضًا داخل المجتمع السوري ، بل وفي مكونات المجتمع الواحد. وهو ما أدى إلى تعقيد المشهد بما يتماشى مع المخطط والسيناريو الأمريكي لشكل سورية الجديدة ، حيث يتم ترسيخ واقع سياسي واجتماعي يصعب – بل يستحيل – فيه تحقيق التعايش السلمي بين مكونات الشعب السوري لاحقا ، مما يرسّخ قناعة أضافية لدى الداخل والخارج بأن تجاوز هذه الأزمة لن يتم إلا من خلال تدخل خارجي يفرض حلولًا مفروضة من الخارج ، بعيدة كل البعد عن بناء دولة مستقرة وموحدة
ـ وفي هذا السياق.. تبرز تساؤلات جوهرية لا يمكن تجاهلها حول ماهية ودوافع وأهداف السياسات الأمريكية في سورية
ـ لماذا لا تترجم الولايات المتحدة رؤيتها المعلنة ، وفق تصريحات مسؤوليها ، كوزير الخارجية أو مبعوثها إلى سورية ، والتي تدعو إلى وحدة الأراضي السورية وإقامة حكم مركزي ، إلى خطوات عملية حقيقية تفرض الاستقرار والسلام..؟
بل على العكس تماما ، حيث تتحرك واشنطن بطريقة تزيد من الاحتقان والتوتر السياسي والعسكري ، وتدفع البلاد نحو صدامات جديدة
ـ لماذا لم تسعَ الولايات المتحدة إلى وقف التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري ، وقصف المواقع السيادية ، رغم قدرتها الفعلية على كبح جماح العربدة الإسرائيلية في الأراضي السورية..؟
ـ لماذا تصر الولايات المتحدة على وضع خطوط حمراء أمام القيادة السورية والتركية ، وتمنع ممارسة الضغط الفعلي على ” قسد ” للانخراط في مؤسسات الدولة ، بالرغم من نفوذها الكبير وتأثيرها المباشر على ” قسد ” وباقي التكتلات السورية..؟
ـ لماذا تُستخدم المؤتمرات والمبادرات السياسية والمنتديات الاقتصادية كأوراق ابتزاز سياسي لإثارة الانقسامات الإقليمية ، بدلا من توظيفها في دعم حلول واقعية تعزز من فرص بناء الدولة السورية على أسس التعايش السلمي والمشاركة الوطنية..؟
ـ ثمة عشرات التساؤلات التي تؤكد ، بما لا يدع مجالًا للشك ، وجود نوايا خبيثة في السياسة الأمريكية تجاه سورية. ولعل أبرزها: كيف لمن ساهم في تمكين السلطة الجديدة من الوصول إلى سدة الحكم داخليًا ، وفرضها خارجيًا ، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها أمريكيًا وأوروبيًا ، بل وعربيًا ودوليًا ، وشطب معظم أفراد العهد الجديد – المتواجدين اليوم في الصفوف الأولى للسلطة – من لوائح الإرهاب ، وشرعنة بقاء المقاتلين الأجانب وتجنيسهم مع عائلاتهم على الأراضي السورية… كيف لهذا الطرف الأمريكي ، القطب الأوحد في العالم ، والذي يدير الحروب في الظل ، ويرسم سياسات الدول في الخفاء ، ويفرض شروطه ليس على الدول المتقدمة فحسب ، بل على التكتلات السياسية والاقتصادية الدولية ، ألا يكون قادرًا على ممارسة الضغط ذاته على بعض المكونات السورية الضعيفة سياسيًا وعسكريًا ، بهدف دفعها إلى الانخراط في مشروع بناء دولة سورية موحدة ومستقرة ..؟
ـ ولماذا يُترك الأفق السوري مجهولًا ، والفضاء مفتوحًا أمام مزيد من الصراعات الدموية..؟
ثم يُرفع سقف المطالب نحو الحكم اللامركزي أو الفيدرالي ، وصولًا إلى الدعوات الصريحة للانفصال عن الوطن الأم ..؟
ـ وهنا.. يبقى السؤال الأكبر والأكثر خطورة : ما هو الهدف النهائي من السيناريو الأمريكي في سورية ..؟
ـ هل تسعى واشنطن إلى تكريس فكرة الإدارة الذاتية ، أو الحكم اللامركزي ، أو الفيدرالية.. ؟
أم أن المخطط يتجه نحو تقسيم البلاد وفق خطوط إقليمية واستراتيجية جديدة..؟
أم أن السيناريو الأمريكي يدفع البلاد إلى مزيد من الانهيار، بهدف خلق بيئة سياسية قابلة للتنازل و الابتزاز، حيث يتم من خلالها انتزاع تنازلات سيادية مؤلمة ، تبدأ بقبول التطبيع مع الكيان الإسرائيلي والتخلي عن الأراضي السورية المحتلة من جهة ، وتمتد إلى وضع القيادة السورية في مواجهة سياسية ، عسكرية وأمنية مباشرة مع إيران وأدواتها ، ضمن إطار تصفية الحسابات الأمريكية ـ الاسرائيلية على أسس طائفية في المنطقة..؟
ـ إن هذا الغموض في الهوية الحقيقية للسياسة الأمريكية يدفعنا إلى ضرورة تبني سياسة وطنية حذرة ، تضمن مواجهة أي محاولات لاستغلال الانقسامات الداخلية ، وتفادي الانجرار إلى مزيد من الصدامات التي لا تهدد وحدة الدولة فحسب ، بل تمسّ وجودها وهويتها الوطنية
وفي النهاية
ـ لقد بات من الضروري اليوم وأكثر من أي وقت مضى ، الإسراع في إطلاق الانتخابات التشريعية في البلاد ، إلى جانب الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل يضم كافة مكونات الشعب السوري دون إقصاء ، ومؤتمر اغترابي موازٍ للشتات السوري في الخارج ، يتم من خلاله مناقشة أسس بناء ملامح سورية الجديدة .. ـ سورية التي تضمن استقلال قرارها ، ووحدة أراضيها ، وتحترم وتصون فرص التعايش السلمي بين أبنائها ، وتحقق استقرارها الداخلي بعيدًا عن أي وصاية خارجية أو تدخلات تُفضي إلى تمزيق اللحمة الوطنية وتقويض مشروع الدولة السورية الجديد
كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا
ألمانيا ـ كولن
المصدر/ رأي اليوم
أعلى النموذج
أسفل النموذج