السيناريو الأميركي في سورية: إدارة الفوضى بدلًا من صناعة السلام

  عصام هيطلاني

ـ تشهد سورية اليوم مرحلة جديدة من التداعيات السياسية والأمنية الخطيرة التي تهدد وحدة التراب السوري ، حيث يبدو أن المشهد يتسارع وفق مخطط وسيناريو خبيث ، يهدف إلى إعادة تشكيل ملامح الدولة والمجتمع السوري على أسسٍ إثنية وطائفية وعرقية ومذهبية ، وذلك من خلال دفع باقي مكونات الشعب السوري نحو قناعة تدريجية مفادها استحالة التوافق والتعايش السلمي مع المكوّن الرئيسي الذي يقود السلطة اليوم في البلاد

 ـ ومن يتابع تطورات الأحداث السياسية والتحولات المتسارعة في المنطقة ، يدرك تمامًا أن المخطط الجاري تنفيذه في سورية ولبنان بشكل خاص ، وفي المنطقة بشكل عام ، إنما يهدف إلى وضع المكون الرئيسي في مواجهة مباشرة مع قوى التطرف الطائفي إقليميًا ، بحيث تتبدل الأدوار وتبدأ دوامة العنف المفتوحة التي لم تتوقف بعد. حيث تؤدي هذه الدوامة إلى مزيد من الشحن الطائفي والتطرف ، وصولًا إلى الحروب والدمار، ورائحة الدماء والجثث ، في تماهٍ واضح مع التكتيك السياسي الأمريكي والرؤية الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز وتبرير الحاجة إلى وصاية خارجية لإعادة ترتيب البيت السوري ، وإعادة توزيع الأدوار الإقليمية بما يخدم مصالح الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي ، ويضمن بقاء سورية دولة هشة وضعيفة ، عاجزة عن إدارة شؤونها ، أو حل مشاكلها الداخلية ، أو صياغة سياساتها الخارجية

ـ وإذا ما أجرينا مراجعة سريعة لمسار الأحداث منذ انطلاق مرحلة ” تحرير سورية من قبضة النظام البائد “، يتّضح أن ما جرى ويجري حاليًا ليس وليد الصدفة ، ولا نتيجة تخبّط سياسي أو غيابٍ للحكمة في المعالجة ، بل هو نتاج بوتقة ضغط سياسية أمريكية ممنهجة تدفع البلاد عنوة نحو أحداث دامية تمتد من الساحل إلى السويداء ، مرورًا بتوترات الشمال والشرق ، والتي تنذر بكارثة إنسانية جديدة إن لم يتم احتواؤها بحكمة وسرعة

ـ لقد ساهمت هذه الأحداث وغيرها ، باختلاف مستوياتها ، في تعميق الاحتقان الداخلي ، وأسهمت تدريجيًا في تكريس انقسامات ليست عمودية فحسب ، بل أفقية أيضًا داخل المجتمع السوري ، بل وفي مكونات المجتمع الواحد. وهو ما أدى إلى تعقيد المشهد بما يتماشى مع المخطط والسيناريو الأمريكي لشكل سورية الجديدة ، حيث يتم ترسيخ واقع سياسي واجتماعي يصعب – بل يستحيل – فيه تحقيق التعايش السلمي بين مكونات الشعب السوري لاحقا ، مما يرسّخ قناعة أضافية  لدى الداخل والخارج بأن تجاوز هذه الأزمة لن يتم إلا من خلال تدخل خارجي يفرض حلولًا مفروضة من الخارج ، بعيدة كل البعد عن بناء دولة مستقرة وموحدة

ـ وفي هذا السياق.. تبرز تساؤلات جوهرية لا يمكن تجاهلها حول ماهية ودوافع وأهداف السياسات الأمريكية في سورية

ـ لماذا لا تترجم الولايات المتحدة رؤيتها المعلنة ، وفق تصريحات مسؤوليها ، كوزير الخارجية أو مبعوثها إلى سورية ، والتي تدعو إلى وحدة الأراضي السورية وإقامة حكم مركزي ، إلى خطوات عملية حقيقية تفرض الاستقرار والسلام..؟

 بل على العكس تماما ، حيث تتحرك واشنطن بطريقة تزيد من الاحتقان والتوتر السياسي والعسكري ، وتدفع البلاد نحو صدامات جديدة

ـ لماذا لم تسعَ الولايات المتحدة إلى وقف التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري ، وقصف المواقع السيادية ، رغم قدرتها الفعلية على كبح جماح العربدة الإسرائيلية في الأراضي السورية..؟

ـ لماذا تصر الولايات المتحدة على وضع خطوط حمراء أمام القيادة السورية والتركية ، وتمنع ممارسة الضغط الفعلي على ” قسد ” للانخراط في مؤسسات الدولة ، بالرغم من نفوذها الكبير وتأثيرها المباشر على ” قسد ” وباقي التكتلات السورية..؟

 ـ لماذا تُستخدم المؤتمرات والمبادرات السياسية والمنتديات الاقتصادية كأوراق ابتزاز سياسي لإثارة الانقسامات الإقليمية ،  بدلا من توظيفها في دعم حلول واقعية تعزز من فرص بناء الدولة السورية على أسس التعايش السلمي والمشاركة الوطنية..؟

ـ ثمة عشرات التساؤلات التي تؤكد ، بما لا يدع مجالًا للشك ، وجود نوايا خبيثة في السياسة الأمريكية تجاه سورية. ولعل أبرزها: كيف لمن ساهم في تمكين السلطة الجديدة من الوصول إلى سدة الحكم داخليًا ، وفرضها خارجيًا ، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها أمريكيًا وأوروبيًا ، بل وعربيًا ودوليًا ، وشطب معظم أفراد العهد الجديد – المتواجدين اليوم في الصفوف الأولى للسلطة – من لوائح الإرهاب ، وشرعنة بقاء المقاتلين الأجانب وتجنيسهم مع عائلاتهم على الأراضي السورية… كيف لهذا الطرف الأمريكي ، القطب الأوحد في العالم ، والذي يدير الحروب في الظل ، ويرسم سياسات الدول في الخفاء ، ويفرض شروطه ليس على الدول المتقدمة فحسب ، بل على التكتلات السياسية والاقتصادية الدولية ، ألا يكون قادرًا على ممارسة الضغط ذاته على بعض المكونات السورية الضعيفة سياسيًا وعسكريًا ، بهدف دفعها إلى الانخراط في مشروع بناء دولة سورية موحدة ومستقرة ..؟

ـ ولماذا يُترك الأفق السوري مجهولًا ، والفضاء مفتوحًا أمام مزيد من الصراعات الدموية..؟

ثم يُرفع سقف المطالب نحو الحكم اللامركزي أو الفيدرالي ، وصولًا إلى الدعوات الصريحة للانفصال عن الوطن الأم ..؟

ـ وهنا.. يبقى السؤال الأكبر والأكثر خطورة : ما هو الهدف النهائي من السيناريو الأمريكي في سورية ..؟

ـ هل تسعى واشنطن إلى تكريس فكرة الإدارة الذاتية ، أو الحكم اللامركزي ، أو الفيدرالية.. ؟

أم أن المخطط يتجه نحو تقسيم البلاد وفق خطوط إقليمية واستراتيجية جديدة..؟

أم أن السيناريو الأمريكي يدفع البلاد إلى مزيد من الانهيار، بهدف خلق بيئة سياسية قابلة للتنازل و الابتزاز، حيث يتم من خلالها انتزاع تنازلات سيادية مؤلمة ، تبدأ بقبول التطبيع مع الكيان الإسرائيلي والتخلي عن الأراضي السورية المحتلة من جهة ، وتمتد إلى وضع القيادة السورية في مواجهة سياسية ، عسكرية وأمنية مباشرة مع إيران وأدواتها ، ضمن إطار تصفية الحسابات الأمريكية ـ الاسرائيلية على أسس طائفية في المنطقة..؟

ـ إن هذا الغموض في الهوية الحقيقية للسياسة الأمريكية يدفعنا إلى ضرورة تبني سياسة وطنية حذرة ، تضمن مواجهة أي محاولات لاستغلال الانقسامات الداخلية ، وتفادي الانجرار إلى مزيد من الصدامات التي لا تهدد وحدة الدولة فحسب ، بل تمسّ وجودها وهويتها الوطنية

وفي النهاية

ـ لقد بات من الضروري اليوم  وأكثر من أي وقت مضى ، الإسراع في إطلاق الانتخابات التشريعية في البلاد ، إلى جانب الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل يضم كافة مكونات الشعب السوري دون إقصاء ، ومؤتمر اغترابي موازٍ للشتات السوري في الخارج ، يتم من خلاله مناقشة أسس بناء ملامح سورية الجديدة .. ـ سورية التي تضمن استقلال قرارها ، ووحدة أراضيها ، وتحترم وتصون فرص التعايش السلمي بين أبنائها ، وتحقق استقرارها الداخلي بعيدًا عن أي وصاية خارجية أو تدخلات تُفضي إلى تمزيق اللحمة الوطنية وتقويض مشروع الدولة السورية الجديد

كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا

ألمانيا ـ كولن

المصدر/ رأي اليوم

أعلى النموذج

أسفل النموذج

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الإدارة الأمريكية تسعى لتحقيق أجندتها بالمنطقة وسورية، وهي لا تنظر لمصلحة شعبنا وثورتنا إلا ما يتوافق مع أجندتها ومصالحها، لذلك على الحكومة السورية أن تعمل لمصلحة الوطن ولا تنظر للتوافقات الدولية لتحقيق مصالح شعبنا، لأنها لن تتحقق، وعليها العمل لتقوية الجبهة الداخلية ومصالح شعبنا، من خلال مشاركة جميع شرائح المجتمع والقوى السياسية ، وليس موافقة أمريكا وفرنسا و..

زر الذهاب إلى الأعلى