مقالاتنبيل عبد الفتاح

الدولة القومية والحرية، والرأسمالية الرقمية النيوليبرالية

نبيل عبد الفتاح

شكلت مسألة الدولة وسلطاتها الثلاث ومؤسساتها السياسية ، والحريات واحد من أهم الموضوعات الفلسفية والسياسية والقانونية والسوسيولوجية فى تاريخ الفكر الإنسانى، ودارت عديد من الفلسفات حولها قبل الحداثة، ومابعد بعدها، وحتى لحظة التحول الكبرى التى تقف الإنسانية أمامها فى قلق وخوف وتمزق في أنسجتها الحداثية وخطر داهم ؛ فى ظل النيوليبرالية ، وهيمنة الشركات الرأسمالية الكونية على عالمنا، ومعها مختبراتها حول تطوير الذكاء الاصطناعى التوليدى، وعالم الروبوتات، وتطوراته فائقة السرعة، على نحو بات يمثل تهديداً للوجود الإنسانى مستقبلا ، ومعه الشركات التى تؤثر على الدول، والنظم السياسة الليبرالية، ومؤسساتها السياسية، والنخبة الحاكمة، وبيروقراطيات الدول الأكثر تقدما، والتى قد يؤدى تطور الذكاء الاصطناعي فائق السرعة إلى توظيف بعض هذه الشركات الكونية الرقمية لإنتاجها في هذا المجال فائق التطور والسرعة فى السيطرة الفعلية على عالمنا، وعلى الإنسان.

مع هذه الأنماط الجديدة من الهيمنة، وحلول البروبوتات، والذكاء الاصطناعى فى مجالات الحياة المختلفة، لن تكون السيطرة الرقمية والروبوتية على المجتمعات الأكثر تقدما، تحت سيطرة الدول، ونخبها السياسية الحاكمة، ومن ثم كل ما يعرفه عالمنا من ميراث فلسفات، وإيديولوجيا، وسرديات سياسية وفلسفية لن تكون صالحة، لإعادة الضبط  والسيطرة علي ما يحدث من هذه التطورات، ولا يمكن وفق بعض كبار الخبراء فى الذكاء الاصطناعى . في هذا الصدد ذهب جيفري هينتون البريطاني الكندي أستاذ الفيزياء في جامعة تورنتو والحاصل علي جائزة نوبل والذي يعد الأب الروحي للذكاء الاصطناعي وساهمت أبحاثه في الشبكات العصبية والتعلم العميق في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بما فيها نماذج اللغات الكبيرة مثل CHAt GPT  قال انني مذهول اخشي أن النتيجة الإجمالية لكل هذا ستكون أكثر ذكاءا مننا وينتهي المطاف بالسيطرة علينا ، وقال بعد ساعة من حصوله علي نوبل ان التكنولوجيا التي ساعد في خلقها”  قد قد تؤدي إلي استعباد البشرية ” . ثمة خوف وخطر محلق في الآفاق يتمثل في إمكانية خروج الذكاء الاصطناعي والروبوتات عن السيطرة ، حتى فى حال وضع الضوابط القانونية ، أو المواثيق الأخلاقية على هذه الشركات الرقمية العملاقة كونيا! لأن مجال البحث لن يكون قاصرًا فقط عليها، وإنما سيتيح المجال لبعض من الأجيال الشابة ما بعد جيلى Z، وألفا لإمكانية اختراق هذا العالم الرقمى والروبوتى، والعمل من داخله، والإبداع خارج الأطر القانونية والأخلاقية، ومن ثم سيؤثر ذلك على الشرط الوجودي الإنسانى، وعلى العمل كمفهوم وكفعل إنسانى وعلي مفهوم الحرية الإنسانية ، وسيدفع شرائح جيلية متعددة إلى الخروج من أسواق العمل، إلى البطالة، ومن ثم إلي الاغتراب الإنسانى، وإلى الحياة فى عالم هامشي، لا علاقة لهم بمجرياته، سوى محضُ الحياة ضد الحافة ، للأكل، والشرب، والفراغ بينما الأجيال الأصغر سنا هى التى تعمل، وتفكر فى ظل هيمنة الروبوتات والعقل الروبوتى الذى يتجاوز العقل الإنسانى، ويوجهه وفق أهدافه –التى لانعلمها حتى الآن-، ويعتمد العقل الأنساني على العقل الروبوتي.

من هنا ستغدو مسألة الحرية الفردية، وحرية الفعل والإرادة الإنسانية تحت الرقابة والضبط الروبوتى وعقل الذكاء الاصطناعى التوليدى المتطور.

السيطرة الروبوتية على عالمنا تتم بتوجيه من الشركات الرقمية الكونية، ستعيد هندسة العالم، وأنماط الحياة فى كل المجتمع الإنسانية، ومن ثم فإن مفهوم  الدولة القومية وسلطاتها ومؤسساتها ، وما بعدها ستتغير، ومعها السيادة، وأدوار النخب السياسية الحاكمة، والبيروقراطية، لأن السياسات الروبوتية المسيطر على بعضها فى هذه المرحلة من العقل الإنسانى، والشركات ومختبراتها، ستحل تدريجيا فى كافة مجالات الحياة –مع بعض الأعطاب- حيث دخلت فى مجال الطب والعمل ،بل في السلطة القضائية والمحاماة، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى، فى بحث القضايا المدنية والإدارية والتجارية والجنائية، وفى تحليل وقائع هذه الأنماط من القضايا، بل والمساهمة فى تحديد المسؤولية القانونية، وترجيح أى خطاب قانونى دفاعى، هو الأولى بالاستناد إليه فى الحكم، مع بعض الأخطاء التى سيتجاوزها الذكاء الاصطناعى مستقبلا مع تطوراته المتسارعة.

 لا يقتصر استخدام الذكاء الاصطناعى علي القضاة، أو المحلفين والقضاة فى نظام المحلفين –فى الولايات المتحدة على سبيل المثال فى القضايا الجنائية-، وإنما بات يستخدمه المحامين وشركائهم فى بحث وتحليل القضايا المختلفة، وفى أعداد صحف الدعاوى، وفى مذكرات دفاعهم المكتوبة، أو مرافعاتهم الشفاهية أمام المحاكم.

من الشيق ملاحظة أن الوظيفة التحليلية والدفاعية والإدعائية للمحامين، تمتد إلى النيابة العامة –أيا كان مسمياتها فى كل دولة- واستخدامها للذكاء الاصطناعى، فى إعداد الأسئلة الموجهة إلى المتهمين، أو تحليل دعاوى الإدعاء المباشر، وإعداد مذكرات، أو صحف الاتهام المقدمة للمحاكم.

وسيلجأ المتهمين فى القضايا الجنائية إلى الذكاء الاصطناعى، لإعداد دفاعهم عن أنفسهم فى مختلف القضايا الجنائية.

عندما يتمدد دور ووظيفة الذكاء الاصطناعى فى المجال القضائى، سيؤدى إلى تهميش، وتنميط العقل القانونى والقضائى، والدفاعى لدى جماعات المحامين، والأخطر جموده لصالح العقل الاصطناعى التوليدى.

فى مجال التشريع، سيلجأ المشرعون إلى الذكاء الاصطناعى، فى إعداد مشروعات القوانين، وإلى استنباط النصوص الجديدة، من خلال مراجعات وتنقيح وتعديل النصوص القانونية السابقة على التعديلات والمشروعات بقوانين الجديدة.

من هنا سيستصحب المشرعون فى البرلمانات الكبرى بعض من مصالح القوى الاجتماعية التى يمثلونها، ويعبرون عنها فى تمثيلهم البرلماني، من خلال استصحاب  الذكاء الاصطناعى، الذى يرجح فى مقترحاته أفضل وأنسب الصيغ القانونية للنصوص المقترحة.

فى ظل الذكاء الاصطناعى، ستلجأ الحكومات ومستشاريها القانونين إلى الذكاء الاصطناعى كآلية هامة فى إعداد مشروعات القوانين المقدمة للبرلمانات، وفى إعداد السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية، بل وفى تحليل السياسات الخارجية. دخل الذكاء الاصطناعى، والروبوتات والمسيرات، وصناعة الطائرات، والصواريخ والدبابات، والعربات المفخخة، وفى عمليات التجسس. إعداد الذكاء الاصطناعى عالم الجيوش، والتسليح، والخطط العسكرية، والمعلومات، وتحليلها، وبناء السيناريوهات المختلفة.

لم يعد الأمر قاصرا على سلطات الدولة الديمقراطية الليبرالية، بل تدخل فى كافة المجالات، فى الأمن الداخلى، والقومى فى مواجهة عمليات التجسس، وأيضا فى مواجهة الجرائم والمجرمين، وفى أنظمة الرقابات على المواطنين، من خلال متابعات الهواتف المحمولة، والثابتة، وعلى الحياة الرقمية، وفق أنظمة رقابية، تتطور برامجها على نحو فائق السرعة.

يعتمد بعض السياسيين ورؤساء الحكومات علي الذكاء الاصطناعي ، مثل رئيس الوزراء السويدي أولف كريسًتوسون الذي اعترف بأستخدامه الذكاء الاصطناعي بأنتظام للحصول علي رأي ثانً في قراراته وفق تقرير نشرته صحيفة الجارديان ، وأثار ضجة سياسية في بلاده .

الأمر لم يعد قاصرا على الدولة الديمقراطية الليبرالية، والدول الاستبدادية، والتسلطية في جنوب العالم فقط، وإنما بات الذكاء الاصطناعى التوليدى جزءا من حياة الأفراد، والجماعات والأحزاب المعارضة، ومن ثم إمكانية توظيفه عل نحو مضاد ومختلف عن التوظيفات الأمنية لأجهزة الدولة المختصة المنوط بها الأمن. بات بإمكان الأفراد، وخاصة الأجيال الأصغر سنا، بعد جيلى Z، وآلفا، أن يخترقوا هذه الأنظمة، والرقابة المضادة عليها، بل وأحداث اختراقات لها، والتلاعب بمعلوماتها!

عالم يبدو وكأنه لا يزال تحت السيطرة، إلا أن إمعان النظر، يشير إلى أنه بات قريبا خارج السيطرة، من الدولة. فى مجال الاقتصاد والشركات الكونية الضخمة من الرأسمالية الرقمية، إلى الشركات الكبري المختصة في إنتاج السلع والخدمات المختلفة ، بات الذكاء الاصطناعى، والرقمنة، والروبوتات جزءاً أساسيا من توظيفاتها وسياساتها الإنتاجية والخدمية، وقدرتها عبر الرقمنة والذكاء الاصطناعى، فى إعادة تشكيل السلوك الاجتماعى والاستهلاكي للإنسان، الفرد، والمجتمعات، ومعرفة الدوافع والرغبات، والسلوك، وإعادة تشكيلهم، وفق سياسات الإنتاج والخدمات، بل وتشكيل الحواس، والرغبات الحسية لدى الإنسان!

الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، وغيرها باتت مؤثرة وضاغطة على الدول والحكومات، وسياساتها وقراراتها، وأيضا على سلطاتها الثلاث ، ومؤسساتها السياسية –من ثم لم نعد أمام الدولة القومية التى عرفناها منذ نشأتها، وتطوراتها مع الرأسمالية ، والثورات الصناعية السابقة.

على صعيد الأنظمة الاجتماعية فى الدول الأكثر تقدما، لم يعد النظام الاجتماعى كما كان ، حيث تمزقت وتفككت الروابط، والعلاقات الاجتماعية، ومؤسسة الأسرة، وأنظمة التنشئة الاجتماعية، والسياسية، وأيضا الروابط الأخلاقية والصداقة، والرفقة، وعلاقات المرأة بالرجل، بل الهوية الجنسية للفرد، مع التحول الجنسى، والمثلية الجنسية. باتت الفردنة قرينة العزلة نسبيا، ومن ثم تحولت الحرية إلى الاستهلاك، وتمركزت حول ثورته السلعية والخدمية الشيئية المفرطة. أن عديد العواطف الإنسانية كالحب باتت مسلعة، ومتجسدة فى العلاقات الحواسية والجنسية، وأصبح حالة متغيرة ومتحولة فى مسار حياة الفرد فى المجتمعات الأكثر تطوراً.

تراجعت نسبيا الأنظمة الأخلاقية، لصالح الانتماءات العرقية، واللونية تجاه الأعراق غير الأوروبية، وخاصة مع كراهية الأجانب والمهاجرين، وصعود هوياتهم الدينية والعرقية والثقافية، وفشل سياسة الاندماج الاجتماعي، وتدفقات موجات الهجرة القسرية، وغير الشرعية فى البلدان الأوروبية.

لم تعد النخب السياسية ما بعد الحرب الباردة تمتلك من الرأسمال السياسى الخبراتى، والملكات السياسية ما يسمح لها بالحضور الفعال فى الحياة السياسية، والقدرة على التأثير على قواعدهم الاجتماعية، والسياسية، وتراجعت أدوار الأحزاب السياسية التاريخية، والجديدة فى التعبير عن قواعدها الاجتماعية، ومن ثم اتسعت الفجوات بين النخب السياسية، والطبقات والشرائح الاجتماعية، والأفراد.

من هنا نحن أمام تحولات فائقة السرعة تشمل الدول، والمجتمعات، ومفاهيم الحرية، والليبرالية التمثيلية ونماذجها البرلمانية، والبرلماسية/ شبه الرئاسية، والرئاسية، فى ظل فجوات ثقة بين الفرد، وبين هذه الأنظمة الدستورية والسياسية.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى