
إحدى أزمات المرحلة الانتقالية التي نعيشها في سورية تكمن في تلك العلاقة شبه المهشمة بين الادارة السياسية والنخب السورية.
والنخب المقصودة هنا ليست التكنوقراط، ولا الموظفين لدى الدولة السورية أو الجهات الخارجية، ولكن تلك النخب الحرة نسبيا والتي تفكر بعقل المصلحة الوطنية المجردة عن الأهواء والغايات الضيقة.
هذه النخبة على قلتها كان يمكن أن يكون لها دور هام في إطار السياسة الوطنية الداخلية , بحيث تحد مما اتصفت فيه الادارة السياسية من كونها تمثل لونا واحدا وهو هيئة تحرير الشام ومن هو الأقرب إليها على وجه التحديد .
ومن أجل إدراك أهمية دور النخب ذاك , ينبغي تذكر أن معظم الانتقادات الموجهة للادارة السياسية تتقاطع عند مسالة الاستئثار بالسلطة واللون الواحد الذي يريد صبغ إدارات الدولة بصبغته الخاصة التي تجد مقاومة مريرة عند حقيقة تنوع الثقافات في المجتمع السوري .
المسألة بالنسبة لمجتمعات سورية متعددة تكمن في المسار السياسي الذي تتعمق فيه وتنتشر المفاهيم الثقافية والفكرية والسياسية المرتبطة بهيئة تحرير الشام بحيث تزاحم مفاهيم وثقافة وعادات تلك المجتمعات بل وتسعى للهيمنة الفكرية والسياسية والادارية في أماكن كثيرة .
وفقط من أجل ايضاح ماسبق فلو افترضنا أن الادارة السياسية قامت بتشكيل مجلس استشاري يمتلك شيئا من النفوذ والفعالية من الشخصيات الوطنية السورية النزيهة والمحترمة ذات التجربة وعلى سبيل المثال فقط مثل : ( عارف دليلة وبرهان غليون ورياض حجاب وجورج صبرا وأمثالهم ) وشاركتهم في رسم السياسة الداخلية أولا والخارجية ايضا في المرحلة الانتقالية وريثما يتم الانتقال للمرحلة الدستورية الدائمة عبر الانتخابات لأحدث ذلك فرقا واضحا ليس فقط في تجنب الأخطاء التي وقعت فيها الادارة السياسية في الداخل ولكن أيضا لاعطاء أمل للشعب بجميع مكوناته الاجتماعية والثقافية أننا لانسير نحو دولة شبيهة بدولة ادلب على مقياس أكبر ولكن نحو دولة مدنية وحكم انتقالي رشيد في اتخاذ قراراته التي تمس سورية واقعا ومصيرا .
ولنكن صريحين فإن الادارة الحالية اتبعت عكس ذلك النهج تماما , فأبعدت جميع المثقفين الوطنيين الذين لاهم لهم سوى مصلحة بلدهم ومصيره , وفضلت ماسمي بالتكنوقراط أو الوجهاء ورجال الدين كما فعلت في السويداء حين أهملت المجتمع المدني والشخصيات الوطنية بدلا من دعمها والاستفادة منها لترسيخ مفهوم الدولة واتجهت نحو المشيخة والوجهاء الذين انقلبوا عليها في اول امتحان جدي .
يمكن متابعة استمرار وثبات ذلك النهج للإدارة السياسية منذ اسقاط النظام البائد وحتى اليوم وعدم الاستعداد لمراجعته وتعديله للأسف الشديد .
وفي حين اضطرت الادارة إلى اللجوء لادارات سياسية في كل محافظة من شباب قليلي الخبرة ولايملكون الحد الأدنى من الوعي السياسي لدعم الحكومة المركزية بدمشق فقد جاء ذلك ليضع صخرة أمام إحياء الحياة السياسية بما في ذلك حرية تشكل وعمل الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني عموما .
تخطىء الادارة السياسية خطأ كبيرا حين تنظر للمجتمع المدني كمنافس أو مشاغب يعرقل سياساتها , وعلى النقيض من ذلك فالمجتمع المدني هو الفضاء الذي يحول ممارسة السياسة في سورية بعيدا عن نزعات العنف والطائفية إلى ممارسة تنتج الروح الوطنية المسؤولة بطريقة سلمية والتي تصب في النهاية بدعم الدولة السورية وفتح الطريق أمامها في مسار التحول الديمقراطي .
وأول ماينبغي الانتهاء منه هو محاولة فرض ثقافة ضيقة أمكن لها أن تعيش في ادلب على المجتمع السوري المتنوع ثقافيا واجتماعيا كونها محاولة خاطئة وخطرة ولابد من الخروج نحو رؤية سياسية مختلفة والاستعانة ليس بالتكنوقراط في الحقل الاجتماعي – السياسي ولكن بالمفكرين والمثقفين الوطنيين المخلصين وبالمجتمع المدني وليس بالوجهاء ورجال الأعمال والعصبيات الطائفية والقبلية والمناطقية دون تجاهلهم بالطبع .
وكل ما سبق هو من أجل تحصين الوضع الداخلي بوجه استهدافات القوى المعادية لسورية من جهة ومن أجل فتح طريق التحول الديمقراطي نحو الدولة المدنية، دولة جميع المواطنين السوريين الأحرار المتساوين وليست دولة الطوائف.