على هامش بيان الاتحاد الأفريقي بشأن السودان

مدى الفاتح

                                                                                             

في مقال سابق بعنوان “السودان وهذه التنبيهات” (“العربي الجديد”، 9/7/2025)، كتبت إننا نفارق الموضوعية (في أحيانٍ كثيرة) حينما يتعلّق الأمر بالتصريحات والمواقف، فنعلي من شأن كلّ ما يمكنه أن يثبت وجهة نظرنا أو يدعم موقفنا، ونقلل في المقابل من أيّ موقف لا يسير على هوانا. بل إنه يُقلّل اليوم من أهمية مُتحدِّث ما لمجرّد أنه تقدّم برأي نعتبره سلبياً أو مُحبِطاً، في حين نكيل في الغد عبارات المدح والثناء للشخص نفسه لمجرّد أنه قام بفعل اعتبرناه صحيحاً.

في بلد يعيش في أجواء حرب تهدّد وجوده وبقاءه، كما يحدُث حالياً في السودان، فإن الاحتفاظ بالروح المعنوية العالية للمقاتلين، ولكن أيضاً للمواطنين الداعمين، يكون هدفاً في حدّ ذاته. إلا أن لهذه النقطة بالذات بعض المحاذير، فمن الجيّد التركيز في كلّ ما هو إيجابي، لكنّ الإمعان في ذلك، وحجب كلّ الشوائب عن الرأي العام أو عن متّخذ القرار بذريعة الروح المعنوية، يكون له، في أحيانٍ كثيرة، تأثير سالب، خصوصاً أن بعضهم، وفي سبيل التبرّع بالإسناد الإعلامي، يقومون بتلفيقاتٍ كثيرة لا أساس لها، وتضرّ أكثر ممّا تنفع، حينما يكتشف الناس أنها محض اختلاق، وهو اكتشافٌ لا يتأخّر كثيراً في الغالب.

موقف الناشطين، وكثيرين من الفاعلين السياسيين المؤيّدين لعملية الجيش العسكرية، من بيان الاتحاد الأفريقي الناقد للحكومة، التي كان الجنرال المتمرّد محمّد حمدان دقلو (حميدتي) قد أعلنها في مناطق سيطرته في إقليم دارفور، غربي السودان، يمكن أن يمثل توضيحاً لما نعنيه. لم يكتف البيان المقصود بعدم الاعتراف بالحكومة الموازية، وبإعلان رفض محاولات تقسيم السودان، بل مضى للترحيب بتعيين رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس، وبحكومته المدنية. يبدو ذلك كلّه إيجابياً، لكن ثمّة سؤالاً يفرض نفسه: إن كان ما سبق يعني بالفعل أن الاتحاد لا يعترف إلا بالحكومة التي يمثّلها عبد الفتّاح البرهان (رئيس مجلس السيادة)، ويرأسها كامل إدريس، فلماذا لم يتراجع عن تجميد عضوية السودان المُعلَّقة منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021؟… قبل الإجابة، ثمّة ملاحظة واجبة الذكر، أن الاتحاد الأفريقي حينما كان يتابع، في وقت سابق، تعنّته وظهوره بمظهر المعادي للسلطة في الخرطوم، كانت أصوات تتعالى باتجاه الهجوم عليه، والقول إنه مُختطَف، وأن صوته تتحكّم فيه مجموعة من الدول تؤثّر فيه منفّذة أجندات خارجية. تلك الأصوات، التي كان بعضها قد ذهب إلى التقليل من قيمة الاتحاد لدرجة الدعوة إلى الخروج منه والانسحاب من عضويته، وجدناها اليوم تضخّم من شأن هذا الموقف الأخير، ومن شأن الاتحاد مؤسّسةً يعتبر أخذ الاعتراف منها أمراً أساسياً.

الحكومة التي حُلَّتْ لم تكن منتخبةً، ولا كانت تملك تفويضاً دستورياً من الشعب

ما نقوله إنه لا يكفي، في التعامل مع الاتحاد الأفريقي، أو مع غيره من المنظّمات الإقليمية أو الدولية، أن نشير بالسلب المطلق، كما لا يكفي أن نتحدّث عن تلك المؤسّسات بعاطفية، مستندين إلى علاقاتٍ سابقة تجمعنا بشخصياتٍ نافذة فيها، للزعم أنها لن تخذلنا، وأنها ستكون في الجانب الصحيح، لأنه في رأي أغلب الفاعلين في المنطقة، ليس هناك جانب صحيح.

بالنسبة إلى الملايين، الذين فقدوا بيوتهم وأموالهم ومصادر رزقهم بسبب تمرّد قوات حميدتي، فهذا مُحبِط، لكنّه يظلّ حقيقةً تعبّر عنها التقارير السياسية والإعلامية والتصريحات، التي إن كانت في هذه اللحظة لا تساوي بين الحكومتَين، إلا أنها تظلّ تقرأ الصراع صراعاً بين جنرالَين لا يمتلكان الشرعية الكافية. هذه القراءة يمكن أن يكون سببها التشويش الذي تتعرّض له الحالة السودانية، ويظهر في التغطيات الإعلامية وبرامج القنوات الإخبارية، بما فيها كثير من تلك التي تنطلق من دول نظنّ أن مؤثّريها أقرب إلى فهم حقيقة الصراع من غيرهم. من الممكن بالطبع أن يكون هناك سبب آخر وهو الغرض الواعي أو الرغبة المتعمّدة في تمييع القضية، بما يُظهر الحرب مجرّد صراع عبثي بين العسكريّين.

إن بدا أن الاتحاد الأفريقي لا يعترف إلا بحكومة كامل إدريس، فلماذا لم يتراجع عن تجميد عضوية السودان

عقدة الشرعية تعيدنا إلى ما حدث في 25 أكتوبر (2021). للتذكير، فقد كان المدنيون الذين ظهروا في الساحة إبّان أحداث إزاحة الرئيس السابق عمر البشير، قد شكّلوا ما عرفت آنذاك بـ”قوى الحرية والتغيير”، التي انضوى تحتها عدد كبير من اللافتات المدنية، التي جلست للتفاوض مع العسكريين، ما انتهى إلى إنشاء نظام سياسي يسمح فيه قائد الجيش، الذي يرأس المجلس السيادي، للمدنيين بتشكيل حكومة بالتوافق. الذي حدث في ذلك التاريخ أن تشاكس القوى المدنية، وشكوى عدد من الشركاء من انفراد أحزاب معيّنة بالسلطة، أدّى إلى إعلان رئيس مجلس السيادة حلّ تلك الحكومة، والطلب من رئيس الوزراء (أُقيل من منصبه ثمّ أعيد إليه بعد ضغط ومطالبات) أن يعمل لتشكيل حكومة كفاءات وفاقية مستقلة.

هذا ما حدث ببساطة واختصار، فالحكومة التي حُلَّتْ لم تكن منتخبةً، ولا كانت تملك تفويضاً دستورياً من الشعب، بل كانت في منصبها بسبب الشرعية التي منحها إياها النظام المتشكّل، الذي كان ضلعه الرئيس هو الجيش. المفارقة هنا أن وصف ذلك الإجراء بـ”الانقلاب” ليس شائعاً عند أعداء الجيش فقط، أو عند رموز الحكومة المنحلّة الذين يستخدمون هذه الكلمة لأنها تجلب لهم كثيراً من التعاطف، وإنما هي كلمة مستخدمة حتى عند أنصار الجيش وداعمي الحكومة، الذين إن كانوا يستسهلون استخدامها لوصف التغيير الراديكالي الذي أعلنه الرئيس عبد الفتّاح البرهان، إلا أنهم يقدّمون بهذا خدمةً (ومبرّراً) لكلّ من يريد سحب الشرعية من النظام، أو يريد مساواة الجيش النظامي بالمليشيا الفوضوية المتمرّدة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى