
ترتكز سياسة الحكومة الاقتصادية المعلنة على التحول نحو “اقتصاد السوق الحرة التنافسي” وبانفتاح البلاد تماما للاستثمارات الخارجية وخاصة الخليجية كأساس في إعادة الإعمار وبناء اقتصاد حر في البلاد نظرا لضعف القدرات الداخلية. وبالتالي يتم البحث ومنذ شهور مع السعودية وقطر عن استثمارات في البنية التحتية وخلق فرص عمل..
فعقد في دمشق في 23 تموز 2025 “منتدى الاستثمار السوري السعودي” وقد اعتبر كشارة البدء في إعمار البلاد وتعزيز شراكاتها حضره أكثر من 100 مستثمر سعودي و 20 جهة حكومية وتم توقيع عشرات مذكرات التفاهم و47 اتفاقية وقعت 9 منها على عجل (24 مليار ريال ) – وقد طرحت مواضيعا للاستثمار في كافة القطاعات وكأن القطاعات ذاتها مطروحة للاستثمار : الصناعة – الزراعة (مزارع نموذجية سلاسل امداد غذائي صناعات تحويلية) – السياحة – التطوير العقاري (سكني، تجاري) – تقنية المعلومات – المقاولات – الطاقة – المصارف التأمين – تداول الأسهم – الخدمات المالية – الاتصالات – المقاولات –الصحة – التعليم و البنية التحتية….
“وقد أمر الأمير محمد بن سلمان بتأسيس مجلس أعمال سعودي سوري على أن يكون القطاع الخاص السعودي الشريك الأول لسوريا في هذه المرحلة” والتوجه نحو استكشاف الفرص الاستثمارية بشراكة اقتصادية مستدامة. كما تقرر إقامة بنك سوري سعودي مشترك من أجل إتمام عمليات التحويلات المالية من خلال المصرفين ورفع التبادل التجاري بين البلدين وكذلك إقامة سوق للمنتجات السعودية في سوريا.
خريطة استثمارية- مجموعة من المشاريع ستؤدي إلى استثمارات عبر صناديق تمويلية يتم استرداد عوائدها ، وقد تم الإعلان عن تعديل قانون الاستثمار السوري في 24 حزيران الماضي ليمنح المستثمرين مزيدا من الضمانات كما أعلن عن البدء بالإصلاح الضريبي للمنظومة الضريبية لتوفير البنية المشجعة للاستثمار للقطاع الخاص وتطوير تشريعات الاستثمار وإلغاء تعقيداتها وكذلك تشريعات الأنظمة التجارية والتحويلات المالية وكذلك تم الإنهاء العاجل لاتفاقية حماية الاستثمار بين السعودية وسوريا.
وكانت قد توالت منتديات رجال الأعمال وخاصة من السوريين في الخارج والعرب والأجانب فتأسس مجلس الأعمال الأمريكي السوري وغيره..
وقد طرحت المشاريع الاستثمارية عامة دون الارتكاز الى خطط توجيهية متكاملة وواضحة لإعادة الإعمار والمتطلبات المرحلية والاستراتيجية للتنمية.
وفي حلب يتم العمل على رسم خارطة استثمارية لـ 15 قطاع استثماري تحت عنوان: “حلب عاصمة اقتصادية لسوريا والمنطقة”. وقد طرحت أدارة المحافظة رؤيتها وطرحها للاستثمار على الشكل التالي:
القطاع الصناعي ( 34 مدينة صناعية خاصة في المدينة الصناعية الشيخ نجار حيث تم تقديم 1500 طلب لشراء 250 ارض) وستقوم شركات تهيئة وتحضير قطع الأراضي لتلبية الطلبات ..وإزاء متطلبات الطاقة فإن هذا التحدي يقدم فرصا استثمارية لمشاريع الطاقة والطاقة البديلة..
القطاع الزراعي : تحضير لمجموعة مشاريع في محيط محافظة حلب شمال وغرب وجنوب،
قطاع التجارة الداخلية: إقامة مراكز تجارية ومولات في المدينة لحاجة السكان في السوق الداخلي لذلك.
التجارة الخارجية: إقامة مصانع ومكاتب في المنطقة الحرة في المسلمية لتشجيع التجارة الخارجية لمن يرغب في التسجيل فيها او في مناطق حرة أخرى. وكذلك البحث عن ارض لمدينة معارض…
القطاع السياحي: تهيئة حلب القديمة بما فيها القلعة وسوق المدينة المغطى الطويل و 500 مبنى تراثي كونها جاهزة لتكون منطقة سياحية تراثية جوهرة لذلك سيتم البحث عن أرض لإقامة مطار دولي لاستقبال 15 مليون سائح وتاجر سنويا .
التطوير العقاري: نصف سكان حلب يقطنون في مناطق عشوائية تعرضت للقصف والزلازل وقد تم طرح الفكرة بأن الناس يعودون من المهجر ويبنون هذه البيوت.. وكذلك الإسراع في التطوير العقاري وإعادة الإعمار (10 آلاف مسكن في الحيدرية و 10 في تل الزرازير ). وفي غرب حلب تم تحضير 5 مناطق للتطوير العقاري كمجمعات سكنية كل منطقة 25 هكتار، ونلتزم بتأمين الشوارع و الطرق والبنية التحتية لهذه الأراضي ونتعاقد أو نتفق بالشراكة مع شركات التطوير العقاري على بناء هذه المناطق.
بنظرة نقدية إيجابية لما تم طرحه وإعلانه في محافظة حلب نبدي الملاحظات التالية:
القطاع الصناعي: ما هي الصناعات المطلوب إقامتها أو تطويرها ؟ وهل هناك خطة لإعادة الصناعيين السابقين الى الاستثمار في نشاطاتهم ؟ وماذا عن تطوير الشروط والتعليمات اللازمة للمحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث؟
لا بد من حماية منتجات الصناعات والحرف الوطنية من المضاربة والتنافس مع البضائع المستوردة. فورشات صناعة الأحذية وصناعة الألبسة الجاهزة في حلب وغيرها أوشكت على الإغلاق نتيجة منافسة البضائع الأجنبية المستوردة لها. وهناك صناعات وحرف أخرى بدت لا تتحمل وطء هذه المنافسة. وعلى التوازي في سن وتطبيق تشريعات لحمايتها وتأمين مستلزمات انتاجها يجب أن يفرض ويراقب تطبيق معايير المواصفات القياسية السورية والعالمية على المنتجات المحلية. وكذلك الحفاظ على منشٱت القطاع العام وتفعيلها وتطويرها..
القطاع الزراعي : ما طبيعة المشاريع الزراعية المنوي إقامتها على أطراف محافظة حلب ؟ وعلى أية أسس قانونية وفنية ؟ هل سيتم تعديل قوانين البنى الزراعية الأساسية (الملكية و الحيازة ) وقانون العلاقات الزراعية ؟ وهل ستتم معالجة وضع أصحاب الحقوق من المالكين السابقين والمنتفعين اللاحقين؟ وماذا عن استمرار تطبيق الخطة الزراعية بحسب المناطق وتأمين مستلزمات الانتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني.. وإعادة تأهيل منشٱت وأقنية ونظم الري ؟
القطاع السياحي : اكثر المباني والأسواق التراثية غير جاهزة كمناطق سياحية تراثية فهي بحاجة لترميم وتأهيل واستثمارها لا يخضع دوما في تقييمه لعوائد الربح التجارية. ويجب طرح خطة في هذا المجال بالتنسيق مع جمعية العاديات بحلب ولجنة حماية حلب القديمة ومديرية الٱثار والمتاحف والمهندسين المعنيين بحلب القديمة في فرع نقابة المهندسين.
إقامة فنادق جديدة وتأهيل القديمة (الشعبية) في حلب ومدن المحافظة يبدو مطلوبا ومجديا. ولكن هل هناك حاجة حاليا لإقامة مطار جديد ومدينة معارض جديدة لطرحها كمشاريع أولوية في خريطة الاستثمار ؟
التطوير العقاري: نعم اكثر من نصف سكان حلب يقطنون في مناطق سكن عشوائية وقد تعرضت للقصف وللزلزال. ولكن لا يمكن تصور إعادة إعمار المناطق غير المرخصة العشوائية بعودة المهجرين او المهاجرين لإعادة بنائها ؟! فإن ذلك إن تم فإنه يعتبر إعادة إنتاجها كعشوائيات !! إنما بتقديم مساكن بديلة على أراض جديدة وإعادة تخطيط وبناء أراضي العشوائيات . إن حيثيات مشاريع إعادة إعمار مناطق العشوائيات ما زالت غير واضحة من نواحي التعويض والسكن البديل والٱليات القانونية. ففي مشروع الحيدرية الذي كان قائما سابقا وتوقف كيف سيسير مشروع التطوير العقاري فيه ؟ كيف سيكون التعويض وإخلاء مئات العائلات التي ما زالت تقطنه ؟ وكيف سيتم تأمين سكنا بديلا لهم ؟ وكيف ستبني شركات الاستثمار هذه المنطقة وغيرها. لا بد أن يتم التشاور بوضوح وشفافية مع السكان أصحاب الحقوق والمصالح عند طرح اي مشروع سكني او اي قانون وتعليمات تمس حياة الناس الإقتصادية والاجتماعية.. ولا بد أن يؤخذ بالدراسة النسيج العمراني الاجتماعي وعلاقته بالبيئة المحيطة للسكان من نواحي البناء والخدمات والمحافظة على الأراضي الزراعية وعدم التعدي عليها باعتبارها ثروة وطنية. ويجب تفعيل دور الشركات الوطنية العاملة في كافة القطاعات بالتنسيق مع دور الدولة الأساسي والقاعدي والاستراتيجي في إعادة الإعمار والتنمية..
فهناك شركات وطنية للتطوير العقاري والبناء يجب أخذها بعين الاعتبار وتشجيعها وتفعيلها كما يجب التأكد من مصداقية تلك الأجنبية التي يتم معها توقيع مذكرات التفاهم المبدئية والتعاقد من نواحي السمعة والسيرة المالية.. وان تراقب دوائر الدولة طرق التعاقد ومن ثم التنفيذ وفق الإجراءات القانونية.. ويكون للدولة دورا في التخطيط والإدارة لتأمين سكن منخفض الإيجار للطبقات المحدودة الدخل ومن خلال مؤسسات حكومية او مشتركة تدير هذه المساكن..
وتبقى المسألة الكبرى في تحديد مناطق التطوير العقاري في حلب. اي تحديد مناطق التوسع السكني الجديد وإقامة المولات والأسواق الكبيرة.. كيف سيتم ذلك والمخططات التنظيمية لحلب مغيبة ؟! أي بغياب مخطط تنظيمي نهائي وتفصيلي ومعتمد من المحافظة والبلدية والخدمات الفنية. فٱخر تعديل على المخطط التنظيمي منذ سنوات عديدة بقي كما هو وليس هناك أية دراسات تفصيلية لمناطق التطوير العقاري التي تم تحديدها. فكيف يمكن لأصحاب الأراضي بما فيها مديريات أملاك الدولة والبلدية استثمار ملكياتهم وإعمارها ؟ علما بأنه هناك ثمة مناطق تنظيمية جاهزة منذ فترة بعيدة للبناء والإعمار وتعذر التنفيذ بسبب الظروف الأمنية : غرب الزهراء W3، كاستيلاو طريق البلليرمون N1 وكاستللو الشقيف N4.
والحديث عن مناطق سكنية جديدة غرب المدينة فقط وطرحها للاستثمار العقاري يبقى قاصرا. فهناك أراض شاسعة غير مسكونة في شرق وشمال حلب اكثرها صخري وغير زراعي وهي مناطق قابلة للتخطيط العمراني والبناء السكني وإقامة المنشٱت الخدمية والسياحية.. كمثل المنطقة العقارية البريج لا سيما تلك المتاخمة للمنطقة الصناعية الشيخ نجار..
وإن إعادة أهل الريف الى قراهم وبلداتهم المهدمة وإعادة إعمار القرى وتنمية النشاطات الزراعية والإقتصادية الأخرى فيها يمكن ان يتم بصورة عاجلة بمساهمة وجهود أهاليها وبدور الدولة في توفير متطلبات البنى التحتية والخدمات الأساسية.. وهذا يتطلب خطط اسعافية أولية ضمن برنامج وخطة طريق كتأمين صندوق اسعافي للبناء السكني وتوفير مواد بناء تقليدية (حديد أسمنت بلوك بحص) وبإشراف لجان فنية وادارات لا مركزية..
وتبقى مواضيع ذات أولوية وتتطلب حلول اسعافية : الأمن والأمان للمواطنين وأعمالهم – تنظيم النقل والسير والمواصلات – المصارف وشركات تحويل الأموال وعملها – شفافية المعاملات الإدارية والمنظومة الضريبية – إپصال المياه وتنفيذ الصرف الصحي – الطاقة والكهرباء لكافة القطاعات – ترميم الطرقات والشوارع والحدائق والساحات وربط الأحياء مع بعضها.
ثم ماذا عن التعليم – إعادة تأهيل الملايين من الأحداث الذين ولدوا تحت الخيام ولم يتثنى لهم الدراسة ويجب دمجهم في المجتمع المدني وسوق العمل، إضافة لدراسة موضوع العمالة وتأهيلها وتأمين العمل لمئات الألوف من العاطلين عن العمل..
وفي المجال الصحي لا بد من إقامة المزيد من المشافي الحكومية ودعمها والرقابة على المشافي الخاصة والتأمين الصحي لكافة المواطنين وهنا يكمن دور الدولة في تنظيم ذلك..أسوة بالدول التي تراعي الحقوق الاجتماعية لمواطنيها وعلى رأسها صحتهم…
إن أي مشروع شامل متكامل لمدينة حلب وريفها يقوم على اسس التنمية المستدامة لا يمكن أن يتم إلا من خلال التخطيط الاقليمي الذي تقوم به الدولة ومؤسساتها. وبالتالي لا بد من قيام لجنة بناء اقتصادي اجتماعي لإعداد خطة متكاملة لإعادة الإعمار قبل طرح خرائط الاستثمار لرؤوس الأموال الأجنبية وحتى المحلية التي يجب ان تعمل في إطار هذه الخطة الوطنية لإعادة الإعمار ومتطلبات التنمية لا سيما في مرحلة تمديد العقوبات والمشاكل التي تهدد وحدة البلاد.. وهذه الرؤية تنطبق بصورة او بأخرى على عموم المحافظات السورية كما لا بد من طرح هذه القضايا للحوار والمناقشة على جميع المستويات الوطنية: الشعبية المحلية والثقافية والنقابية والعلمية والمهنية….
أختتم بكلمات للمفكر الكبير الشيخ عبد الرحمن الكواكبي،: “إن فقد التربية هي المصيبة الكبرى في الشرق، فإذا لم نتوصل إليها في بلادنا فليس من أمل في الخلاص من الاستبداد. وفي الحكومات المنتظمة فهذا يكون دور الدولة إذ تتولى السلطة التربية و التعليم وسن القوانين الاجتماعية و العناية الصحية ورعاية العاجزين والاهتمام بالمجالات الثقافية والفنية والتخطيط العمراني..”.
13 ٱب/أغسطس 2025