
لن يكون المشهد السوداني بعد إعلان قوات الدعم السريع، بقيادة محمّد حمدان دقلو (حميدتي)، تشكيل حكومة موازية، ومجلس رئاسي في غرب السودان كما قبله. فهذه الخطوة (وفي هذا التوقيت) ستكون لها انعكاسات وتردّدات كثيرة على المعادلة السودانية، وعلى مختلف الأصعدة، سيّما أنّها تضع الأطراف السودانية أمام خياراتٍ صعبة، وتفتح الباب أمام قراءات متباينة حول دلالاتها ومآلاتها.
في هذا السياق، تباينت آراء المحلّلين إزاء تلك الخطوة وتداعياتها على السودان، ففي وقتٍ رآها بعضهم تحدّياً مباشراً لشرعية الحكومة المدعومة من الجيش، نظر بعضهم الآخر إليها محاولةً لفرض أمر واقع، وخطوةً استباقية لأيّ تسويةٍ دوليةٍ محتملةٍ قد تُقصي “الدعم السريع” من المشهد، في حين رآها فريق ثالث خطوةً لترسيخ تقسيم السودان بين كيانين متوازيين، مستحضرين، في الوقت نفسه، سيناريوهات دول عربية أخرى، مثل اليمن وليبيا، حيث تتنازع حكومتان، تزعم كلّ منهما الشرعية والتمثيل الوطني.
تنبع خطورة تشكيل دقلو حكومة موازية من أنها تمثّل جزءاً من لعبة إقليمية تهدف إلى تكريس واقع انفصالي
وعلى الرغم من تباين آراء المحلّلين إزاء تلك الخطوة وأهدافها، إلا أنّ ما يجعل هذه الخطوة أكثر خطورة هذه المرّة تداعياتها وتوقيتها، اللذان يؤشّران إلى تحوّل عميق في استراتيجية محمّد حمدان دقلو، والدول الداعمة له، لتكريس سلطة أمر واقع في إقليم دارفور ومحيطه، سيّما أنّ الخطوة جاءت بعد سلسلة هزائم مُنيت بها قواته بعد أكثر من عامين من الحرب وشبه انحصار نفوذها في دارفور بولاياته الخمس، باستثناء شمال دارفور، بالإضافة إلى أجزاء من ولايات شمالي وغربي وجنوبي كردفان، والنيل الأزرق، فضلاً عن الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – فرع الشمال، عبد العزيز الحلو، ، التي سبق أن انفصلت بدولة جنوب السودان عام 2011، في جنوب غربي ولاية جنوب كردفان.
كما تنبع خطورة هذه الخطوة أيضاً من أنها تمثّل جزءاً من لعبة إقليمية خطيرة تهدف إلى تحويل مليشيا مسلّحة كياناً حكومياً موازياً، بما يكرّس واقعاً انفصالياً، ويمزّق الدولة السودانية، وهو ما يفسّر تحالف دقلو مع قوى انفصالية مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان- فرع الشمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، والجبهة الثورية التي تضمّ عدداً من الحركات المسلّحة في دارفور. وعليه، تبدو الخطوة محاولةً لإعادة تلميع صورة الدعم الإقليمي (خصوصاً من دولة الإمارات) لدقلو، عبر إضفاء طابع سياسي منظّم على هذا الكيان، بعد ما أثاره ذلك الدعم من انتقادات حادّة في المحافل الدولية، بسبب الاتهامات الموجّهة إليه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. وهكذا، فإنّ تشكيل حكومة موازية قد يكون أيضاً وسيلةً لإضفاء شرعية شكلية تتيح لحلفاء دقلو الدفاع عن مواقفهم في الأروقة الدولية، على أساس أنّهم يدعمون حكومة وكياناً سياسياً منظّماً يسعى لتحقيق السلام والاستقرار، بدلاً من تقديمها مليشيا مسلّحة تسعى لزعزعة الاستقرار. وبالتالي، لا يمكن عد هذه الخطوة مجرّد ردّة فعل على عجز التسوية أو غياب الدولة المركزية، بل باتت تعبيراً عن مشروع سياسي متكامل يرمي إلى إنشاء دولة انفصالية لحكم الإقليم. لذلك، فإنّ التداعيات المتوقّعة على هذه الخطوة ستتمظهر في عدد من التطوّرات المنتظرة محلّياً وإقليمياً.
تبدو الحاجة ماسّة لتحرّك شعبي داخلي، وإقليمي جادّ، من الدول الرافضة لمشاريع التقسيم، من أجل حماية ما تبقّى من الدولة السودانية
محلياً، من المتوقّع أن تسهم هذه الخطوة في تصعيد الصراع العسكري خلال الفترة المقبلة، خصوصاً في منطقة الفاشر التي تريد قوات الدعم السريع ضمان السيطرة عليها، لتأمين المناطق الحدودية، وضمان خطوط الإمداد، بما يعني إمكانية انفصال إقليم دارفور فعلياً، وهو السيناريو الأسوأ في السودان لأنه ترسيخ فعلي لتقسيم السودان بين إقليمين. كما أنّ هذه الخطوة ستدعم التوجّهات الانفصالية في شرق السودان والنيل الأزرق، خصوصاً أنّ التمثيل السياسي لهذه المناطق في حكومة دقلو جاء هامشياً، ممّا يعني انفتاح السودان على سيناريوهات التقسيم بين دويلات عرقية وجهوية تتصارع إلى ما لا نهاية. أمّا إقليمياً، فمن المتوقّع أن تؤدّي هذه الخطوة إلى تموضع إقليمي جديد، فتشاد (على سبيل المثال) ستكون أمام مشكلة إدارة توازن صعب وحسّاس بين قوات دقلو، التي لها امتدادات قبلية مع قبائل تشاد، وبين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، إذ إنّ الانحياز إلى أيّ منهما سيكون مكلفاً لرئيس تشاد من زاوية إمكانية التحالف من طرفَي الصراع السوداني مع المعارضة الداخلية ضدّ نظام حكمه. أمّا ليبياً فسيطرة “الدعم السريع” على الحدود السودانية معها سيزيد من نشاط الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظّمة، ممّا سيكون مصدر قلق أوروبي، لا بدّ أن ينعكس خلال الفترة المقبلة في تركيز اهتمام الاتحاد الأوروبي على أزمة الحرب في السودان.
ختاماً، يبدو المشهد السوداني اليوم مفتوحاً على جميع الاحتمالات، فما يحصل فيه حالياً هو محاولة انفصال قائمة على وقائع عسكرية وجغرافية وسياسية يتواجه فيها جيشان وحكومتان من عاصمتَين بانتظار أن يقضي أحدهما على الآخر، أو تنحسم التجاذبات الإقليمية والدولية لصالح تقسيم جديد للبلاد. وأمام هذا الخطر، تبدو الحاجة ماسّة لتحرّك شعبي داخلي، وإقليمي جادّ، من الدول الرافضة لمشاريع التقسيم، من أجل حماية ما تبقّى من الدولة السودانية، وإجبار أطراف النزاع على الجلوس إلى طاولة مفاوضات حقيقية تحت رقابة دولية صارمة. وإلا فإنّ ما تبقّى من السودان سيتلاشى، ويتحوّل بؤرةً أخرى للفوضى المُدبّرة في قلب أفريقيا.
المصدر: العربي الجديد