
تعرف قسد جيدا كيف تستغل أية فرصة سانحة للافلات من الضغوط الخارجية التي تدفعها للاندماج مع الدولة السورية , فبعد أن أوشك الحصار السياسي أن يطبق عليها مع رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية , واعتراف الولايات المتحدة بالدولة السورية الجديدة وقيامها بسحب معظم قواتها العاملة في الجزيرة السورية . لجأت قسد للمراوغة والمماطلة بتطبيق اتفاق الشرع – عبدي دون أن تتنصل منه رسميا , لكن تلك المراوغة تحولت إلى تصلب ورفض واقعي لأي إجراء على الأرض ينسجم مع تعهداتها الموثقة في الاتفاق السابق , وجاءت أزمة السويداء التي تدخلت فيها اسرائيل بصورة غير متوقعة وصلت إلى حد قصف المراكز السيادية في قلب العاصمة دمشق وقصف قوات الجيش والأمن العام في السويداء مما اضطر الجيش السوري للانسحاب في النهاية واستعادة الميليشيات المسلحة التي تعمل تحت إمرة الشيخ حكمت الهجري السيطرة التامة على السويداء , أقول جاءت تلك الأزمة ومارافقها من تدخل اسرائيلي ودولي من أجل التوصل للهدنة , وأيضا من قطع كل حوار سياسي بين تيار الهجري والدولة المركزية , وطرح الحكم الذاتي للسويداء وتشكيل هياكل ادارية محلية بأوامر من الشيخ الهجري لتعيد تشكيل المعادلات السياسية الداخلية في سورية بحيث أضعفت موقف الادارة الحكومية السورية وأظهرت وكأن الدولة المركزية فقدت قدرتها على مد سلطتها على كامل البلاد كما كان الحال عليه قبل انفجار الوضع في السويداء .
التقطت قسد بسرعة تلك اللحظة , وبدأت بتصعيد موقفها السياسي والعودة لنغمة الفدرالية بصيغة لفظية معدلة ( اللامركزية المبهمة والتي تفسرها قسد في النهاية باعتبارها لامركزية سياسية أي فدرالية أو كونفدرالية ) . واستغلت ماحدث في السويداء من ارتكابات وجرائم تم تجييرها سياسيا ضد الدولة السورية لتقدم نفسها في مؤتمر المكونات كقوة عسكرية وسياسية سورية معنية بالأقليات التي ” تتعرض للاضطهاد “
وغلفت ذلك ضمن سيل من المفردات حول الديمقراطية وحقوق المكونات والتشاركية ….مما لم تعرفه الجزيرة السورية خلال فترة احتلالها من قبل قوات قسد التي قدمت أسوأ نموذج لممارسات المحتل تجاه العشائر العربية التي تمثل الغالبية الساحقة لسكان الجزيرة السورية .
ومن دواعي السخرية أن تمثيل العرب في مؤتمر المكونات كان لايتناسب إطلاقا مع البنية السكانية للجزيرة السورية بينما احتكرت قسد اللجان التنظيمية للمؤتمر وأبعدت العرب نهائيا عن تلك اللجان .
مايهمنا هنا ليس مسرحية المؤتمر ولكن تلك المشاركة الرمزية لكل من الهجري والشيخ غزال بزعم تمثيلهما للمكون الدرزي والعلوي , مما يضفي على فكرة تحالف الأقليات التي لم تطرح من قبل بتلك العلنية بعدا سياسيا مختلفا عما سبق .
صحيح أن الهجري لايمثل السويداء بل تيارا سياسيا محددا ربط نفسه علنا باسرائيل , وأن غزال ليس لديه تلك المصداقية في تمثيل العلويين , لكن ما يحصل لدينا الآن هو تحالف فعلي بين قسد وبين تيار الهجري برعاية اسرائيل وضمن هدف تحقيق ممر داوود للربط بين السويداء التي يسيطر عليها الهجري وبين منطقة الجزيرة التي تحتلها قسد , أما رمزية مشاركة غزال فهي أقل أهمية بكثير .
يشكل ماسبق تحديا حقيقيا للدولة السورية , ومالم يتم التعامل مع ذلك التحدي بالقدر الكافي من الجدية والحزم فسوف يهدد وحدة ومستقبل سورية .
كيف يمكن احتواء ذلك التبدل في موازين القوى الداخلية لصالح الدولة السورية ؟
لنترك جانبا الجهد الديبلوماسي من أجل لجم تدخل اسرائيل في سورية , ومن أجل الضغط على قسد للاندماج ضمن الدولة السورية . ولنحاول تصور تغيير المعادلات الداخلية بطرق أخرى .
يأتي في المقدمة بدون شك تعميق التحالف مع الدولة التركية صاحبة المصلحة الحيوية في منع تقسيم سورية ويبدو أن ذلك لم يعد أحد الخيارات بل الخيار الذي لابد منه بعد وصول الأمور إلى ماوصلت إليه .
وفي الداخل لابد من مراجعة شاملة للمسار السياسي للادارة السورية . لقد بح صوت الوطنيين المخلصين وهم يطالبون بمراجعة ذلك المسار باعتباره قد أدخل البلاد بأزمة تزداد تفاقما وتقدم لأعداء سورية الفرص للانقضاض على الدولة السورية الجديدة وإعادة عقارب الساعة للوراء بل نحو الأسوأ أي الحرب الأهلية والفوضى ثم التقسيم .
يمكن سحب البساط من تحت أقدام القوى الانفصالية المدعومة من اسرائيل والدول المعادية لسورية بفتح مسار سياسي جديد عبر انتخابات عامة لجمعية تأسيسية تتولى وضع دستور توافقي للبلاد يشكل رافعة للعمل الوطني دون تعريض الدولة للمخاطر .
خطورة المرحلة التي تمر بها سورية تبرر تذليل كل العقبات اللوجستية التي يمكن أن تعترض تلك الانتخابات . وذلك في نطاق الممكن بالتأكيد .
الاعلان عن انتخابات عامة حرة بوجود مراقبين دوليين لجمعية تأسيسية سوف يقلب الطاولة على كل الأطراف الداخلية والخارجية المعادية للدولة السورية .
ولابد أن يترافق ذلك مع لجنة تحقيق مستقلة وشفافة لكشف الحقيقة عما حدث في السويداء وتقديم سردية موثقة إضافة لتحديد الأطراف المرتكبة للجرائم بحيث يتم إحالتها للقضاء .
مؤتمر المكونات قد يكون فاشلا سياسيا لكنه جرس انذار للادارة الحالية ولجميع السوريين أن تغييرا حقيقيا للمسار السياسي الذي بدأ منذ اسقاط النظام في الثامن من كانون الأول الماضي أصبح استحقاقا مصيريا راهنا لمستقبل سورية .