العملية الانتخابية واستشراف المستقبل

محمد بشير الخلف

مقدّمة:
التجربة الاجتماعية قابلة للدرس والتحليل، واستخراج العبر منها كمثل التجربة المختبرية، وإنِ اختلفت المادة المكونة لها. فإن نجحت كانت منجزاً بشرياً يضاف إلى الرصيد الحضاري الإنساني.
لا شكَّ أننا كأبناء ثورة نعي حساسية المرحلة الانتقالية التي يمر بها بلدنا ، و انطلاقاً من هذا علينا ان نسلّط الضوء و نوجه النقد الإيجابي ، و البناء بتعزيز الإيجابي و تعرية و فضح السلبي.
فهذا المنهج الفكري السياسي (أعني الانتخابات) هو نتاج و انعكاس لمعاشنا الاجتماعي . لذلك وجب علينا مشاخصة هذه الحالة بمنظار الفكر و الاجتماع لا السياسة.
تسعى هذه المحاضرة أن تناقش أربعة محاور:
أولاً: الإطار المعرفي و الفلسفي الذي نظّم العملية الانتخابية ، التي جرت في تشرين الأول 2025 .
لا نعلم أن للسلطة الحاكمة مرجعية فلسفية تؤطر نفسها بها ، و ترسم آفاقاً و مناهج مؤسساتها المكونة لها.
لهذا ندرك و نقدّر الظرف السياسي الذي أفرز هذه الآلية لاختيار أعضاء لمجلس الشعب ، كي تنطلق ماكينة سَنِّ القوانين الجديدة ، و إقرارها و إلغاء القوانين الظالمة المجحفة بحق السوريين من قبل النظام المجرم البائد.
من المعروف لدى الجمهور المهتم بالشأن العام أن الانتخابات بدلالتها السياسية هي مفهوم إجرائي منقطع من شجرة نسبه المعرفي المنتمي للفكر الديمقراطي و الليبرالي.
و هذا الأمر يحتاج إلى وقفة تفكّر و تساؤل ؛ هل السلطة أقرّت بالانتخابات تحت ظروف دولية ضاغطة ، و تحت إكراهات السياسة فقبلت بتبني هذا المفهوم دون ان تقر علنا بالتزامها بمرجعيتها الديموقراطية ، أم أنها ما زالت تبحث عن هوية فلسفية ترضي به الداخل المنقسم رؤيوياً ، و الخارج المراقب لكل سلوكها و تصرفاتها.
قد نجد لها العذر في ذلك نحن السوريون الطامحون لبناء دولة حقيقية ترعى مصالح جميع السوريين ، و ذلك بسبب أن المرحلة ، حسب ما تعلن السلطة من منابرها و منصّاتها المعرفة بها ، أنها مرحلة انتقالية ، و تحتاج إلى آليات إسعافية تسهم في تشغيل ماكينات الدولة.
لذلك استندت الدولة أو السلطة الحاكمة إلى مرجعية مجتمعية تشكلت من خلال المؤتمر الوطني ، الذي عُقِد في الشهر الثاني شباط عام 2025 ، و في الخامس و العشرين منه صدرت مخرجات المؤتمر الوطني معبرة عن الوفاق الوطني حول القضايا الكبرى ، و في مقدّمتها :
الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً و شعباً.
تحقيق العدالة الانتقالية ، و إنصاف الضحايا.
جـ – بناء دولة المواطنة و الحرية و الكرامة و سيادة القانون.
د- تنظيم شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية وفق مبادئ الحكم الرشيد الدستوري ، و في المادة 24 منه تنص على أن يشكل رئيس الجمهورية لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب . تشرف اللجنة العليا على تشكيل هيئات فرعية ناخبة في المحافظات و المدن ، و تنتخب هذه الهيئات ثلثي أعضاء مجلس الشعب و الثلث الباقي يعيّنه الرئيس.

ثانياً : البيئة المعرفية للّجنة العليا.
بإطلاق سفينة الانتخابات و تعيين بحّارة عليها أصبح من حقنا السؤال و التساؤل ؛ لماذا سارت هذه السفينة بهذا الاتجاه ، و ليس بذاك ؟
فالبحارة محكومون بالعلوم و المعارف و التجارب ، التي حصلوا عليها عبر مسيرتهم الحياتية و العملياتية.
و سبق أن قلنا أن السلطة ليس لديها رؤية فلسفية في الحكم تؤطر أعمالها بأجندة إجرائية . فطبيعي أن يكون الاجتهاد الفردي أو حتى المجموعاتي هو السائد و المقرر. فاللجنة بحسب المسح المعرفي لسيرتهم الذاتية يغلب عليهم :
صفة الشباب ، و هو ما يؤشر إلى قلة الخبرة الفكرية و السياسية و الإجرائية.
غلبة أبناء المنطقة الوسطى عليها ، فمعلوم لدى الجميع أن المجتمع السوري فيه تمايزات ثقافية متنوعة ، فطبيعة المجتمعات من حيث اجتماعها و افتراقها ، انتظامها و تشتتها مختلف ، فأبناء المدن الكبرى لديهم علاقاتهم القائمة على المصالح و المنافع بحكم طبيعة معاشهم و أعمالهم . بينما المدن الريفية فيغلب على تشكلات علاقاتهم البنية العشائرية . مثل : درعا، الدير ، الرقة ، ريف حلب .
العقل المنظم لهكذا إجراء يفترض أن يكون من الخبراء القانونيين ، و الفقهاء الدستوريين ، و هو ما لم نجده في الأساتذة في اللجنة العليا ، فليس فيهم قانوني واحد .
مرجعياتهم الفكرية تغلب عليها الصفة الإيديولوجية متمثلة بالمدرسة الإخوانية ، و المدرسة السلفية ،و هامشيين ليسوا أكثر من واجهات على أفضل تقدير.
هذه أهم الملاح للبنية الفكرية للأساتذة في اللجنة العليا ، و هي قد انعكست على مجال عملهم في اللجان الفرعية ؛ حيث أنها تكاد أن تكون نسخة طبق الأصل عنهم.

ثالثاً: الأسس التي قامت عليها التنافسية الانتخابية .
على اعتبار أن المجتمع السوري غير منظم حزبياً و سياسياً لم يكن التنافس بين السادة المرشّحين قائماً على أسس برامجية تتسابق في تقديم الأفضل للمواطن ، و بموجبها يتم الاختيار بين المرشحين.
و بذات الوقت كانت الفترة قصيرة من حيث إشهار أسماء أعضاء اللجان الناخبة ، و تحديد اليوم الانتخابي ؛ لذلك اعتمد الأعضاء أشكالاً مختلفة من الاصطفافات و التحالفات ، و الإعلان عن رؤاهم المستقبلية . ففي المدن الكبرى تشكلت قوائم انتخابية قدمت كل قائمة برنامجاً تراه هو الأجدى في واقع السوريين اليوم ، فاختار الجمهور الناخب القائمة التي وجدها خير من يمثله، و قد سجل بعض المتابعين التداخلات من هنا و هناك قبل الوصول إلى الصندوق ؛ فصنع النجاح قبل الانتخاب. بينما في المدن الريفية ، أو الأرياف بشكل عام ، فكانت التحالفات الانتخابية تأخذ ثلاث مسارات :
المسار الأول : كان صلبه الاصطفاف العشائري-و إن كانوا ثواراً- و قد استند إلى جبهتين ؛ جبهة عشائرية صرفة ، و جبهة مكونات عشائرية بلاصق فصائلي.
المسار الثاني : و هم الثوار المبعثرون المشتتون الخارجون من انتماءاتهم العشائرية ، و لم يسبق لهم خوض مثل هكذا معتركات ، ظلوا مصرين على فردانيتهم و خياراتهم بقوة الأنا المهشمة الباحثة عن وجودها و تعبيرها ، لم يعقلوا اللعبة الانتخابية و ضرورة اصطفافهم ، أو انتظامهم في حبل سياسي أو مدني يحقق مصالحهم الجمعية لا مصلحتهم الفردية.
المسار الثالث : و هو المسار الذي غرف من ماعون العشائرية قليلاً ، و عبّأ مما يمكن أن نطلق عليه ( التيار المدني ).

رابعاً : الدروس المستفادة.
المجتمعات الحية و العاقلة تقوم بتقويم تجاربها الإنسانية السياسية منها و الاجتماعية ، فتعزز الإيجابي و تعممه ؛ بحيث يدخل في الضمير الجمعي ، و يصبح أحد اللواصق الماسكة للوحدة الوطنية ، و تحاول أن تؤشر إلى السلبي بكل شجاعة ، و إظهاره و تعريته ، فنحن أولاً و أخيراً بشر نصيب و نخطئ.
فمن هذه الدروس:
أظهر الشعب السوري وعياً و انضباطاً عاليا بسيرورة العملية الانتخابية دون إخلال بالأمن، وشفافية واضحة في التصويت والفرز بالرغم ما اعترض سياقات الاختيار من ملاحظات ، و هذا مبشر لمستقبل السوريين ؛ إذ حينما ينالون حريتهم يعبرون بسلوكهم و تصرفاتهم عن عمقهم الحضاري العظيم .
فقدان الثقة العمومية : من تابع الانتخابات عن قرب يلمس تشظي الذات الفردية و قلقها و اضطرابها ، فهي فاقدة الثقة بمحيطها ، و بمن يفترض أنه شريكها في بناء مؤسسات الدولة. و هذه الثقة هي شرط البناء السياسي ، و العقد الاجتماعي الذي نسعى إليه لبناء سوريا الجديدة ، التي خرّبها حافظ و ابنه المعتوه بشار. لقد ضربوا منظومتها القيمية في الصميم ، فما عاد أحد يثق بأخيه أو صديقه أو قريبه. حتى في الانتخابات التي كانوا يجرونها في صفوف حزب البعث . كان المرشحون يحلّفون الأعضاء الناخبين الأيمان ، و حتى على كتاب الله ، و مع ذلك تجد من يحنث بهذا اليمين نتيجة الاضطراب و القلق ، و الفساد الذي حقنه المجرمون في قيم و أخلاق الناس.
فهذه الأمراض ما زال لها تأثير على الكثير منا.
سقوط العشائرية السياسية : رغم كل الجهود التي بذلت من أجل الدفع بمرشحيها للوصول الى قبة البرلمان.
لقد قدمت ثلاثة عشائر كبيرة مرشحين لها ، و رغم كل المحاولات الدعائية لم يحصلوا الفوز مع أنهم حققوا أرقاماً منافسة.
و أعتقد أن هناك سببان كان لهما الدور الأكبر في خسارة هؤلاء المرشحين:
السبب الأول : أن التحالفات الفصائلية كانت أقوى بحكم الروابط ، التي تحكمهم منذ بدايات الثورة.
السبب الثاني : الوعي المدني المتنامي لدى الشريحة المتعلمة ، و النخبة المثقفة دفعها لعدم القبول ، و الالتزام بقرار العشيرة الذي لم يروا فيه تحقيق مصالحهم.
صناعة أنموذج : الجميع يعلم أن الفترة الزمنية للمجلس المنتخب عامان، و أن الآلية الانتخابية التي جرت ، و أفرزت أعضاء البرلمان انتهت صلاحيتها. فعلى بُعدِ عامين سوف تكون هناك انتخابات شعبية عامة ، مفتوح المجال فيها لكل حلفاء الأمس ، فإن لم يكن الأنموذج الذي نقدمه أفضل من أنموذج النظام البائد ، فأبشروا بالخسران و بلعنة الأجيال و التاريخ ؛ لأن الذي فرش لنا الطريق إلى الدولة فتية ضحوا بأنفسهم من أجل أن نغير واقع الحياة ، و أساليب أنظمتها المستبدة لا أن نبدل هذا الشخص بهذا الشخص.

لذلك أدعو كل الأخوة الثوار و الخيّرين في بلدنا إلى البدء من اليوم إلى تشكيل اجسام مدنية وحزبية تقطع مع الطائفية ، و مع القومية الانفصالية ، و مع العشائرية السياسية ، فكلها من نبتٍ سام للمجتمع.
إن حلاوة النصر تبعث على الخدر ، و قد نخسر كل تضحياتنا إن لم نتابع السير بأدوات الدولة ، التي أوصلتها الثورة إلى ما هي عليه ، فالخصوم متربصون و يعدون الأيام لحين الانتخابات القادمة ؛ ليعيدوا هجومهم ، فلا تمكنوهم من أنفسكم بتفرقنا و تشتتنا ، و عدم انتظامنا مدنياً أو حزبياً .

2025/11/29

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى