
في العام 1913 تم عقد المؤتمر السوري الأول في قاعة الجمعية الجغرافية الفرنسية بباريس والذي خططت له ونفذته جمعية العربية الفتاة بالتعاون مع شخصيات لبنانية نافذة مقيمة في فرنسا وحزب الاتحاد السوري في مصر، وصيغت فيه مطالب الاصلاح العربية الموجهة للحكومة العثمانية التي كانت تسلمت السلطة فعليا بعد إزاحة السلطان عبد الحميد عن الحكم في 1909 وكانت برئاسة الثلاثي ( أنور وطلعت وجمال ) .
يمكن النظر إلى مؤتمر باريس باعتباره محطة رئيسية في تاريخ الحركات القومية العربية ، فبعد ذلك المؤتمر أصبح لدينا برنامج سياسي مشترك واضح المعالم ، وكما هو ظاهر من لغة القرارات فقد صيغت مقرراته كمطالب إصلاحية مقدمة للدولة العثمانية وليس كبرنامج عمل ثوري إنقلابي ، فمؤتمر باريس مؤسس على الإعتراف بسيادة الدولة العثمانية ، لاعلى الخروج عن تلك السيادة والإنفصال عنها ، وبذلك فهو يفتح الباب أمام الحوار مع حكومة الإتحاديين للوصول للإصلاحات المطلوبة ، لكنه يقدم مطالبه بلغة جازمة تعطي الإنطباع بأن الحركات القومية العربية قد نفد صبرها وأن مطالبها لم تعد تحتمل التأجيل والتسويف.
لكن ماذا كان رأي المفكر والسياسي البارز شكيب أرسلان الدرزي العروبي الذي كان يفكر بعقل الأمة وليس بعقل الطائفة :
الأمير شكيب أرسلان كان يرى أن الأتراك أنفسهم هم سبب انحدار الدولة العثمانية بسبب سوء إدارتهم وتناحرهم والفساد الذي انتشر في إدارة الدولة والولاء للأجنبي ومن تلك الأمراض تسلل الأجنبي واستطاع أن يمتلك مراكز اقتصادية ومالية وثقافية ، لكن الأمير شكيب رغم ذلك كان يفضل بقاء الدولة العثمانية لأن البديل عن الحكم العثماني ليس الحكم العربي ولكن الحكم البريطاني والفرنسي فاختيار العثمانيين هو اختيار لأخف الضررين ( كتاب شكيب أرسلان : تاريخ الدولة العثمانية – المقدمة )
هكذا عارض شكيب أرسلان بقوة مؤتمر باريس وكتب في نقده له وللمطالب التي تقدم بها وأهمها اللامركزية :
” أما اللامركزيون فكان قصارى سعيهم أن جعلوا القلق يسود على الأفكار ، وزرعوا بذور النفور بين العرب والترك ، وفتحوا مجالا للصحف الأجنبية للخوض في مسألة سورية ، وإذا دققت في جميع حركاتهم وسكناتهم تجدها رامية إلى غرض واحد ،وهو إيجاد مسألة أوربية في سورية ، أو مسألة سورية في أوربة “
في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة لم تصغ غالبية المثقفين القوميين العرب الذين كانت تدفعهم ردة الفعل على التعصب القومي الذي أظهرته حكومة ” الاتحاد والترقي ” وقبلها جماعة ” تركيا الفتاة ” , مثلما كانت تعبث بهم من وراء ستار اليد الامبريالية الغربية , فقد تناول وجيه كوثراني في كتابه ” وثائق المؤتمر العربي الأول 1913 ” الدور الخفي للخارجية الفرنسية والأجهزة المرتبطة بها في الاعداد لذلك المؤتمر وعقده وحتى نتائجه بموجب الوثائق التي حصل عليها الكاتب .
شيئا فشيئا انزلق الموقف السياسي للنخب العربية – تحت وطأة عدم استجابة حكومة الاتحاديين لمطالب المؤتمر , والظروف القاسية التي واكبت دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى عام 1914 وإعدام جمال باشا لنخبة من المثقفين العرب من سورية ولبنان- نحو الدعوة للانفصال عن الدولة العثمانية ووضع اليد بيد الشريف حسين فيما سمي بالثورة العربية الكبرى , وقد أسفر ذلك في النهاية عن المساهمة في تنفيذ مخطط الهيمنة الغربي التام على المشرق العربي عبر تجزئته واحتلاله وزرع الكيان الصهيوني فيه .
سورية اليوم تعيش وضعا مشابها , حيث بدأت بعض النخب السورية تنزلق تحت وطأة رد الفعل على أحداث الساحل والسويداء وأخطاءالادارة السورية من النقد وطلب الاصلاح إلى العداء التام والتوجه نحواسقاط الدولة السورية الجديدة بغض النظر عن النتائج شبه المؤكدة التي ستعقب ذلك الاسقاط إن حدث من فوضى وحرب أهلية ربما تنتهي بالتقسيم . كما تتجاهل أن مثل ذلك الهدف أي اسقاط النظام سيمر بالضرورة بتدخل دولي تكون اسرائيل إحدى أهم أدواته ولابد أن يكون لها حصة الأسد في نتائجه .
كل ذلك لم تعد تراه تلك النخب , ولم يعد يثير لديها أي اهتمام مقابل فكرة القضاء على الدولة السورية الجديدة .
إن الانطلاق من عدم الاعتراف بالدولة السورية ورفض أي حوار معها , ليس سوى المقدمة المنطقية للدعوة لاسقاطها , وأخطر مافي الأمر أن ذلك الموقف لم يعد يقتصر على تيار الشيخ الهجري وتيار قسد وفلول النظام البائد , لكنه بدأ يجد أذنا صاغية ضمن بعض النخب السورية المحسوبة على التيار الوطني الديمقراطي .
فهل تكرر النخب السورية بعد مايزيد عن مئة عام خطيئة النخب السورية السابقة التي عبرت فيها عن ضيق الأفق , والاستسلام للرغبة الذاتية وردود الفعل , والعجز عن التفكير بعقل الأمة وليس بعقل الطائفة والنخبة المنفصلة عن الواقع .