
يوم أمس استخدم الرئيس المصري الكلمات الأكثر وضوحاً وصرامة في وصف ما يجري في غزة، حين نطق بلفظة “الإبادة جماعية”، والهدف بحسبه تصفية القضية الفلسطينية. لكن يبدو أن ما يرفضه السيسي هو أن تكون مصر بوابة لتهجير الفلسطينيين. ففي السابق، اقترح علناً تهجيرهم إلى صحراء النقب. لا يعارض الرئيس إذاً التهجير في حد ذاته، لكن الرفض يتعلق بإلقاء مسؤولية الغزيين على أكتاف القاهرة. يقف سكان القطاع، في وجه أحلام إسرائيل الكبرى قيد التحقق، ذلك المشروع القومي-اللاهوتي والمختبر النشط لإنتاج أحدث التقنيات الرقمية للمراقبة والتجسس والقتل الواسع وتجريبها. وأيضاً يعطل الغزيون الجنة العقارية على ساحل المتوسط، المعروفة باسم “ريفييرا غزة”، وهو المشروع شبه العائلي لترامب وصهره كوشنار.
تصريحات السيسي، مثلها مثل الخطوات التي اتخذتها مؤخراً بعض الدول الغربية، ومن بينها الاعتراف بدولة فلسطين أو فرض العقوبات على عدة أفراد، ليست سوى تطبيع مع الإبادة. نطق كلمة بمثل هذا الثقل الرهيب ينبغي أن يرافقها أو يتبعها سلسلة من الخطوات الطارئة والحاسمة للتصدي للجريمة الأفدح ضد الإنسانية، لكن إطلاقها في الهواء، بلا تبعات يعني اعتياداً على الإبادة وصبغها بصفة العادية، أو على الأقل منحها اعترافاً بالحتمية. لم يُخفِ الإسرائيليون منذ بداية الحرب مقصدهم الإبادي، بل جاهر السياسيون والقادة العسكريون بهدفهم النهائي ووسائل تنفيذه، بطول شهور الحرب. تعميم وصف الإبادة بدلاً من إنكاره قد يكون استراتيجية أنجح من وجهة نظر الإسرائيليين.
بالتوازي مع تصريحات الرئيس، رفضت السلطات منح ترخيص لمظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة المصرية. وحتى الآن لم تتخذ الدولة القاهرة أي خطوات ولو رمزية لوقف الإبادة، بل على العكس ترتفع مؤشرات التبادل التجاري بين البلدين، وتأخذ الدبلوماسية المصرية مسافة آمنة عن جهود ملاحقة إسرائيل في المحاكم الدولية. التراخي المصري، الأقرب إلى التواطؤ، ليس فقط خياراً تحكمه علاقات القوى، بل أن ثمة مشتركاً أيديولوجياً بين ما يجرى في غزة ومنطق عمل السلطة في مصر.
يوم واحد يفصل بين كلمة الرئيس بشأن غزة، وإقراره لـ”إصلاح” قانون الإيجارات القديم. إعادة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر كما يطلق على التعديلات القانونية التي تمس أكثر من 3 ملايين عين مؤجرة، هي بمثابة إعلان حرب طبقية، لا تصطف فيها الدولة إلى جانب صغار الملاك كما تدعي، بل إلى جانب الرأسمال الكبير والعابر للحدود. منطق الحكومة المعلن أن الوحدات المؤجرة بحسب عقود الإيجار القديم بقيمة زهيدة وشبه ثابتة لعقود، تمثل انحرافاً عن آليات العرض والطلب، وتعد تجميداً لأصول يمكن تدويرها في السوق المفتوح، كوحدات لتخزين القيمة والمضاربة.
من المتوقع أن يقتلع تحرير سوق الإيجارات القديمة مئات الألوف من الأسر المصرية الأقل دخلاً من مساكنها. ذلك التهجير الطبقي أشبه بعملية تطهير ديموغرافية ستجري على نطاق واسع وبقوة القانون، وذلك لصالح الاستثمارات الكبرى، التي لا تكتفي بالاستيلاء على أصول الدولة الواحد بعد الآخر وأراضيها الشاسعة، بل تتوسع بشهيتها المفتوحة في السوق العقاري الأهلي. ذلك التطهير الطبقي غير المحدد جغرافياً، سبقه عمليات تهجير قسري لمناطق بعينها، سواء لأسباب أمنية كما حدث في سيناء، أو لأسباب تتعلق بالاستثمار العقاري كما حدث في مثلث ماسبيرو وجزيرتي الذهب والوراق، وما يحدث حالياً في أهالي راس الحكمة لصالح إنشاء ريفييرا مصرية على شواطئ المتوسط، في الطرف الغربي للبلاد.
قد تظهر المقارنة بين ما يجري في غزة وبين ما يجري في مصر بخساً لهول المذبحة الجارية. ومع هذا ثمة مشترك بين الإثنين. فالحكومات المحلية مثلها مثل مشاريع الاستعمار الاستيطاني في المنطقة، لا ترى في سكانها سوى فوائض بشرية تثقل على كاهل الاستثمارات، ولعل الحدود القصوى للتعامل مع تلك الفوائض تتجلى في الإبادة في غزة.
المصدر: المدن