
في أحد وجوهها فإن أزمة سورية السياسية ليست فقط أزمة الادارة السورية الراهنة ولكنها أيضا أزمة النخب السورية التي لم تتمكن حتى الآن من قراءة الواقع كما هو عليه لا كما تريد وايجاد الحلول السياسية الممكنة والتي يمكن أن تكون مقبولة من الادارة الحكومية أو تصبح مقبولة بعد أن تجد الادارة نفسها مضطرة للأخذ بها باعتبارها أهون الشرور للخروج من أزمتها السياسية الداخلية .
فإذا كان هناك نوع من الاتفاق بين تلك النخب أن المسار السياسي الداخلي أصبح بحاجة لمراجعة شاملة , فيبدو أن المدخل لتلك المراجعة مازال ضبابيا أمامها . والمبادرات والمشاريع التي تطرح تنتهي في معظمها إلى جملة من الخطوات قد تكون موجهة من حيث الصياغة اللفظية للحكم لكنها تعني في النهاية أن على الحكم تسليم مفاتيح دمشق لجهة ما شبحية لاوجود لها وإعادة بناء الدولة من نقطة الصفر وهو أمر غير واقعي على الاطلاق .
وإذاكانت السياسة فن الممكن وليست فن المستحيل فينبغي التفكير بمخرج آخر يمكن أن يكون معبرا يؤمن تعديل المسار السياسي والحفاظ على الدولة في الوقت ذاته .
وفي هذا السياق فإن ما طرحه الدكتور برهان غليون يبدو شديد الأهمية , واضحا , وأيضا واقعيا إلى حد كبير .
وأقصد المطالبة بانتخابات عامة حرة (بمراقبة دولية وهذه من عندي ) لجمعية تأسيسية تتولى وضع دستور دائم للبلاد .
وكما هو واضح فإن ذلك الطلب لايعني على الاطلاق مشروعا انقلابيا على الدولة بل على العكس فهو يهيء للدولة طريقا لمراجعة سياساتها الداخلية عن طريق اشراك مؤسسة دستورية في الحكم ويرسخ شرعيتها ويفتح أمامها الطريق لاحتواء التناقضات والانقسامات الداخلية ويمنحها وضعا أكثر قبولا بين دول العالم , وهكذا تصبح مناقشة الدستور ممكنة من قبل ممثلي الشعب داخل قبة البرلمان , ومن تلك النقطة يمكن تصحيح المسار السياسي كله بطريقة سلمية وديمقراطية .
سوف آتي الآن للحجج التي تعترض خارطة الطريقة هذه .
باختصار يمكن أن يقال الآتي : إننا في وضع مرحلة انتقالية لم تحقق فيها الدولة بسط نفوذها على البلاد , ولا العدالة الانتقالية ولا عودة اللاجئين والحد الأدنى من التعافي , كما أننا لم نتقدم في إحياء الحياة السياسية ولم نر حتى الآن أحزابا سياسية ذات وزن شعبي فكيف تريدون القفز نحو الانتخابات بهذه الحالة .
الاجابة على تلك الحجج تكمن في الواقع الذي وصلت اليه سورية خلال السبعة شهور الماضية فإذا كان الواقع يتطلب بالحاح مثل تلك الخطوة فعلينا تغيير طريقتنا في التفكير .
فالمسار السياسي الحالي أصبح بحاجة ماسة لمراجعة شاملة , وقد أصبحت مثل تلك المراجعة ضرورة وطنية عليا يمكن أن تمس مستقبل سورية , هنا تطرح الانتخابات العامة ليس كمدخل للديمقراطية ولكن كمدخل لعلاج أصبح ملحا وراهنا .
علما بأن مسألة المرحلة الانتقالية قد تم افراغها من كثير من مضمونها في الواقع , فالحكومة تتصرف بمسائل تتعلق بالاستراتيجيات العليا لبناء الدولة وابرام المعاهدات كحكومة دستورية في المرحلة بعد الانتقالية .
وأزمات مثل أزمة الساحل والسويداء وغيرها ترتبط بنهج سياسي أصبح بحاجة ماسة للتغيير .
إن الاستقرار الذي تحتاجه سورية للنهوض الاقتصادي أيضا أصبح يرتبط باحتواء الانقسامات الداخلية والتي تعيدنا الى ضرورة مراجعة النهج السياسي .
الحريات التي يعيشها شعبنا حاليا أنتجت حالة مختلفة تماما عما خبرته سورية سابقا , وأصبح الأمر بحاجة لمؤسسات ديمقراطية يمكن من خلالها ممارسة السياسة بطريقة منظمة ودستورية تؤمن الاستقرار السياسي .
كل ذلك يضطرنا إلى غض النظر عن الظروف المثالية التي كنا نفكر بها قبل إجراء انتخابات عامة .
نعم لن تكون تلك الانتخابات كاملة , لكن يمكن لها أن تكون حقيقية وكافية لتشكيل جمعية تأسيسية تمثل الشعب , وهي أفضل الف مرة من مؤتمر حوار وطني موسع يكون أساس تشكيله التمثيل الطائفي والعنصري والمناطقي ويصبح ميدانا للتنازع على كعكة الوطن .
الانتخابات العامة حين تتحول لمطلب تلتف حوله القوى الوطنية الديمقراطية يمكن أن تكون مفهومة ومقبولة أيضا من قبل شرائح شعبية واسعة كما يمكن لاحقا أن توضع على الطاولة أمام الادارة الحكومية كمشروع حل سياسي للأزمة التي تعيشها البلاد .