
بعد تداول صورة الطفل الغزي الذي يصارع الموت جوعاً وقد خطفت عظام جسده الأنظار، قرر الإعلام الإسرائيلي بعد نحو عامين على حرب “طوفان الأقصى” أنه لا يستطيع الاستمرار في الصمت بعد اليوم. ليس كل الإعلام بطبيعة الحال، بل قلة قليلة من وسائله.
فإلى جانب صحيفة “هآرتس” التي لم تخفِ جانباً من حقيقة ما يجري منذ اليوم الأول للحرب، هناك ثلاثة من الإعلاميين استدركوا قبل أيام قليلة الأمر، وخرجوا بحملة واسعة حظيت بدعم إعلامي خجول ومن باحثين وسياسيين وأمنيين سابقين.
والإعلاميون هم يونيت ليفي (قناة 12) وطالي مورينو (قناة “كان” الإخبارية) وأودي سيغل (القناة الـ13) الذين خرجوا بحملة تحت عنوان “نضع حداً لإخفاء الحقيقة، وسنبث ما يحدث في غزة“. وعلى خلفية صور أطفال غزة وهم يصرخون جوعاً وفي أياديهم قدور الطعام فارغة، كتبوا باللغتين العبرية والعربية “ما الذي يخفيه الإعلام”.
إسكات وخجل
إعلاميون آخرون تجاوبوا معهم، ولكن هناك من أُسكتوا حتى في بث مباشر كما حصل في القناة الـ13 عندما أسكتت مقدمة البرامج موريا إسراف، الصحافية عمانويلا إلباز فيليبس التي حاولت التعبير عن الصدمة التي أصيبت بها بسبب صورة الطفل الغزي الذي يبكي، والصور القاسية التي تأتي من غزة عبر وسائل الإعلام الأجنبية.
قبل أيام فقط استيقظ الإعلام من سبات دام قرابة العامين، وحتى استيقاظه ما زال بطيئاً ولم يتطرق إلى حقيقة كاملة عما يحدث في غزة وما يعانيه الطرف الآخر جراء الحصار والقتل. لم يحمّل أي صحافي نفسه عناء تغطية جانب مما يحدث، باستثناء التركيز على التظاهرات التي تشهدها غزة من قبل المعارضين لحركة “حماس”.
من رافق الإعلام الإسرائيلي طوال فترة الحرب لم يشاهد سوى الحديث عن جبروت هذا الجيش وقدرته وإنجازاته في غزة، وعن خططه العسكرية وحكومة نتنياهو وما تخطط له في شأن مستقبل القطاع. أما في اليوم الذي يسقط فيه قتلى بين الجنود، فتبقى الحقيقة تحت رقابة عسكرية حتى اليوم التالي، ثم تليها تغطية مترعة بتعابير الحزن بمرافقة مراسم تشييع الجثامين، وطبعاً لم تغِب صرخات عائلات الأسرى وتظاهراتهم ودعوتهم إلى صفقة فورية، وقد تصدروا شاشات التلفزيون كبقية المحللين والخبراء العسكريين الذين ظهر انقسام بينهم، ولكن ليس بسبب ما يرتكب في غزة، بل حول مصير الأسرى وأهمية عقد صفقة لإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة.
ولم يتحدثوا عن قتل المدنيين الأبرياء وتجويعهم، حتى إنهم تجاهلوا باحثين وشخصيات بارزة انتقدت أعمال القتل في غزة، خصوصاً من وافقوا على تسمية “إبادة شعب”. وهناك من خصص كتاباته لمهاجمة هؤلاء وصحيفة “هآرتس” التي كشفت عن حقائق مروعة نقلت بعضها على لسان جنود إسرائيليين رفضوا العودة لغزة وأداء الخدمة العسكرية. كذلك تعرض صحافيون لهجمة تحريض واسعة لمجرد أنهم عبروا عن رأيهم حول ما يحصل من جرائم حرب وإبادة جماعية.
دعم في الخفاء
بعد أيام من حملة الإعلاميين الثلاثة وقرار لجنة الأمن القومي في الكنيست بالإعداد للقراءة الأولى لمشروع قانون يسمح بإغلاق وسائل إعلام أجنبية من دون إقرار من المحكمة، بدأ النقاش يتسع في إسرائيل، بل تفاقم بعد ما نشرته صحيفة “هآرتس” في كلمتها، معتبرة أن ما يحصل في غزة “كارثة تشمل قتلاً بالجملة، جوعاً جسيماً، وهدماً ممنهجاً، ونقلاً قسرياً للسكان المدنيين من منطقة إلى أخرى”.
“إن حقيقة عدم السماح منذ بداية الحرب لوسائل الإعلام الحر، الإسرائيلي والعالمي، بتغطية فظائع الحرب، ليست صدفة”، كتبت الصحيفة، مضيفة أن “إسرائيل تصر على إخفاء واقع وحشي. الحكومة، بإسناد المحكمة العليا، تؤمن بأن في وسعها توفير صورة بديلة أكثر راحة كجزء من منظومة الإعلام الرسمي الذي ليس سوى اسم آخر للدعاية”.
والسياسة التي اتبعتها إسرائيل تجاه وسائل الإعلام العالمية دفعت العشرات منهم إلى طلب دعم ومساعدة قسم من وسائل الإعلام في إسرائيل، بما في ذلك اتحاد الصحافيين والصحافيات، للحصول على إذن دخول إلى غزة. وقُدم إلى المحكمة الإسرائيلية العليا طلب من 130 وسيلة إعلام للسماح بدخول غزة منذ بداية الحرب، غير أن المحكمة تماطل في الالتماسات. وآخر رد كان في سبتمبر (أيلول) عام 2024، وقد عُينت جلسة للنظر في ذلك خلال يونيو (حزيران) الماضي، لكن الحرب على إيران أدت إلى تأجيلها.
المتخصص في شؤون القضاء حين معنيت يرى أن “التجاهل شبه المطلق لمعظم وسائل الإعلام للدمار والألم والمعاناة التي تتسبب بها إسرائيل لسكان غزة في الحرب المتواصلة بالقطاع، هو فشل ذريع بل تعبير عن التصرف المعيب الذي شاهدناه أخيراً حين أسكتت المقدمة في القناة الـ13 موريا أسرف بصورة عنيفة الصحافية عمانويلا فيليبس لمجرد أنها أرادت التعبير عن صدمتها، ولكن أسرف ليست الوحيدة، فثمة مراسلون يديرون ظهرهم لمعاناة الأطفال في غزة، ويرفضون عرض الصورة الكاملة لثمن الحرب أمام الجمهور. إنهم بذلك يخونون دورهم”.
ويضيف أن “المحكمة العليا أيضاً، وهي المؤسسة المبجلة المهتمة بالدفاع عن حقوق الانسان، تقف جانباً، وتقريباً لا تتدخل في عمليات إسرائيل داخل القطاع من تجويع وحرمان من العلاج وحظر زيارات الصليب الأحمر للسجناء الأمنيين ومنع وصول المراسلين، ونقل السكان من مكان إلى آخر وجعلهم نازحين، وهذا فقط جزء من النشاطات التي نفذتها إسرائيل في غزة، والمحكمة العليا لم تتدخل فيها ولم تمنعها على رغم الالتماسات التي قدمت إليها من قبل منظمات حقوق الإنسان”.
“ورقة تين” الدولة
لكن ليست فقط المحكمة التي تساند إخفاء الحقيقة أو الترويج لإنكارها وتجاهلها، بل أيضاً الأكاديميا في إسرائيل، حيث نشرت مجموعة من الباحثين بحثاً من 250 صفحة باسم مركز “بيغن – السادات” للأبحاث الاستراتيجية في جامعة “بار إيلان”، تحت عنوان “فحص انتقادي لتهمة الإبادة الجماعية في حرب السيوف الحديدية”، ترد ضمنه على بحث نشره المستشرق لي مردخاي تحت عنوان “إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة”.
البحث تجاهل استنتاجات مركزية لبحث مردخاي عما يجري في غزة، وعلق الأخير على رد مجموعة الباحثين بأنه “ورقة تين في خدمة الدولة”، وفق تعبيره، مضيفاً أن “المزعج في هذا التقرير تحديداً أن الباحثين أعلنوا أنهم يجرون فحصاً نقدياً لما يحدث في غزة، لكن بإخضاع نتائجه لمنهجية أكاديمية يتبين إلى أية درجة فشلوا في مهمتهم. ومثلما أظهر كثير من النقاد في الشبكات الاجتماعية أنه ليس من الضرورة أن يكون المرء خبيراً في القضاء الدولي كي يرى أن التقرير لا يناقش حقائق جوهرية ويتجاهل استنتاجات رئيسة، حتى تلك التي تظهر في مصادر إسرائيلية رسمية”.
“ليس صدفة ما نشاهده من نقاش في شبكات التواصل الاجتماعي حول كل ما يجري في غزة، وأيضاً الردود على هذا التقرير”، يردف مردخاي. وأحد الردود قال إنهم “يهينون ليس فقط أنفسهم، بل يلحقون العار العميق بالأكاديميا الإسرائيلية”. وكتب ناقد آخر أن “منهجية كتاب التقرير تسمح لهم بتفسير الحقائق بحسب السياق الذي هم معنيون به، أي الذي يظهر إسرائيل بأفضل صورة ممكنة، باختصار، دعاية”. كاتب ثالث قارن أسلوبهم بأسلوب “رافضي التطعيمات، أو الذين يؤمنون بأن الأرض مستوية”.
ويعلق مردخاي “ككاتب للبحث الرئيس الذي يرد الباحثون في مركز ’بيغن – السادات‘ عليه، ولأنني أعتقد بأنه في غزة تجري باسمنا تقريباً منذ عامين جرائم خطرة، مهما كان اسمها، أنا مسرور من النقاش العام وتجند مزيد من الإسرائيليين للمشاركة فيه. لا شك في أن إظهار الأخطاء والعيوب الكثيرة في عملية فحص انتقادية لتهمة الإبادة الجماعية في حرب السيوف الحديدية أمر مهم، وهي واحدة من النقاط الأساسية في الخطاب الإسرائيلي العميق والجوهري بخصوص الحرب، والطريقة التي تدار بها، حتى لو كان النقاش يجري بصورة متأخرة جداً بالنسبة إلى سير الأحداث”.
ممنوع أن ننسى
ويقول مردخاي “على رغم ذلك، ممنوع أن ننسى أن الأمر لا يتعلق بمشكلة نظرية في التاريخ البيزنطي خلال القرن السادس مثلاً، بل بمشكلة آنية تشكل أمام ناظرينا العالم الذي نعيش فيه. الحرب ضد غزة تجري منذ أكثر من 21 شهراً، وحتى الآن قتل خلالها ليس أقل من 59 ألف فلسطيني، والعدد الحقيقي تقريباً هو 100 ألف، معظمهم من المدنيين غير المشاركين فيها. بالنسبة إليهم فإن إثارة النقاش الأكاديمي في إسرائيل لم يعُد ذا صلة. وخلال الأشهر الأخيرة قتل في المتوسط أكثر من 60 فلسطينياً كل يوم. عندما بدأ النقاش الجماهيري بجدية قبل أيام أُطلق النار على غزيين أرادوا الحصول على الطعام، كما أوضح ذلك فيلم فيديو ظهر ضمنه إطلاق نار عشوائي تقريباً باتجاه ما يظهر أنهم مئات الأشخاص الذين يتجمعون ويأملون في عدم الإصابة”.
واعتبر مردخاي أن طبيعة النقاش مهمة جداً، وتكشف عن كثير من مواقف الإسرائيليين، فـ”التقرير لم يولد في فراغ، بل يشكل جزءاً من سياسة إسرائيلية ثابتة. وكتاب التقرير عبروا عن الثقة المبالغ فيها بالنفس إلى درجة الوقاحة، وتطاولوا على كثيرين حولهم ممن اختلفوا معهم، ووعدوا بأمور عظيمة، وثيقة تثبت أنهم وحدهم على حق وأن باقي العالم على باطل. وبعد أن قدموا عملاً هزيلاً انتقلوا بصورة شبه تلقائية إلى موقف التباكي، وبدأوا بمهاجمة خصومهم وكتبوا ’اليسار الراديكالي هو مثل طائفة ستالينية‘، من دون أن يردوا على جوهر الانتقادات ضد تقريرهم”.
ولكن ماذا سيفيد النقاش الصاخب حول التقرير في شأن القضية الجوهرية؟ سؤال لم يتجاهله مردخاي، وبرأيه “من الخطأ الغرق في الانتقاد حول تقرير مجموعة الباحثين لأن الهدف الحقيقي ليس الانتصار في النقاش شبه الأكاديمي على الإنترنت، بل وقف الأعمال الفظيعة التي تحدث في العالم الحقيقي. المشكلة ليست في التقرير الحالي، بعيوبه البحثية والأخلاقية، بل في المنظومة التي يمثلها والتي تريد أن تغسل يديها في وقت ترتكب جرائم فظيعة على بعد مسافة قصيرة من مراكز قوتها. المنظومة نفسها خلقت في غزة باسمنا جهنماً متواصلة بالنسبة إلى الأطفال والنساء والرجال الذين يعيشون هناك”.
ويدعو مردخاي في ذروة النقاش الإسرائيلي حول إخفاء حقيقة جرائم غزة وما يجب فعله، إلى قول الحقيقة واستغلال رؤية جديدة لبناء بديل أخلاقي وسياسي جديد، وهو بحسبه “إنتاج معرفة تحترم الواقع وتطالب بمساءلة حقيقية، والأكثر أهمية التكاتف من أجل تحرك مدني لمنع مزيد من الجرائم. هذه هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها نحو التصحيح البعيد المدى الذي ينتظرنا خلال الأعوام والعقود المقبلة”.
بناء هوية الضحية
أما رئيس معهد اليهود المعاصرين في الجامعة العبرية بالقدس دانييل بيلتمان، فيرى أن ما تفعله إسرائيل منذ ثلاثة أجيال في بناء هوية الضحية هو ما يدفع إلى نفي الإبادة الجماعية في غزة والكشف عن حقيقة ما يحصل هناك.
ويعتبر بيلتمان ما نشرته مجموعة الباحثين إنكاراً للحقيقة لا يختلف عن إنكارات سابقة لـلـ”هولوكوست”. وبعد إظهاره التشابه في المقارنة بين الـ”هولوكوست” وغزة، يقول “مثل أعمال إنكار أخرى في الماضي، لا يقترح بحث مركز ’بيغن – السادات‘ إجراء تحقيق جدي، بل مجرد ادعاءات انتقائية تهدف إلى استبعاد مسبق لأية إمكانية لتوجيه تهمة جنائية لإسرائيل بسبب تنفيذ إبادة جماعية. والتغليف يصبح معقداً أكثر، ولكن الهدف واضح وهو نزع المسؤولية وتشويش المفاهيم والتشكيك وتحويل النقاش العام الأخلاقي إلى نقاش فني. بهذه الطريقة يُبنى حاجز بين الفظائع ومعناها، مما حذر واضع ميثاق الأمم المتحدة للإبادة الجماعية رفائيل لمكين من حدوثه، عندما تُبذل محاولات لطمس الهوية وظروف موت الضحايا واستبدالها بالأرقام وتعريفات ونماذج إحصاءات”.
ويضيف بيلتمان أن “هذه المقاربة تعارض تعريف الإبادة الجماعية الذي طرحه لمكين والذي تحدث عن تدمير بالتدريج، مؤسسي وثقافي، لمجموعات عرقية، أو تفسيرات متأخرة لباحثين أكدوا على مفهوم ’النية المتراكمة‘. فالإبادة الجماعية لا تحتاج إلى وجود نية صريحة، بل هي نتيجة عملية فيها تصريحات وسياسة فعلية وخطاب سياسي ونزع جماعي للإنسانية ونماذج عمل متكررة تندمج لتصبح عملية إبادة”.
وذكّر بيلتمان بما شهدته إسرائيل من تصريحات وتهديدات، فـ”عندما يقول سياسيون إن لا أبرياء في غزة، وعضو كنيست يطلب إلقاء قنبلة نووية على القطاع، وآخرون يتحدثون عن الطرد الجماعي لمليون مدني، أو فصل الرجال عن النساء والأطفال وتصفيتهم، فإن تراكم هذا الخطاب يكون جزءاً من آلية تشرعن هذه النشاطات على الأرض”.