
شكّل طوفان الأقصى صدمة استراتيجية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ودفعها إلى إعادة النظر في مسلّمات أمنها القومي وإعادة تشكيل عقيدتها العسكرية. ومع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، أعلن نتنياهو انهيار اتفاقية فض الاشتباك عام 1974 لتبدأ إسرائيل فعلياً عملية عسكرية جوية، وتوغلاً برياً في عمق الأراضي السورية.
جاءت هذه التحركات في ضوء العقيدة الأمنية الجديدة، إذ لم تعد إسرائيل تكتفي بنموذج الردع والاحتواء وإدارة الصراع، بل انتقلت إلى استراتيجية “الحسم الاستباقي والسيطرة المكانية”.
من الردع إلى الحسم
طوال عقود، اعتمدت إسرائيل على ثنائية “الردع التراكمي” و”المعركة بين الحروب”، وهي استراتيجية تقوم على توجيه ضربات محدودة ومتتالية لإضعاف الخصوم تدريجياً، من دون الدخول في مواجهات واسعة النطاق. لكن صدمة 7 أكتوبر كشفت هشاشة هذه الاستراتيجية، وأظهرت أن الاكتفاء بإدارة الصراع لم يعد كافياً لحماية أمن الاحتلال.
انتهجت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر نهجاً يقتضي “عدم السماح للتهديد بالظهور” والقضاء على جميع مقوماته، الاقتصادية والسياسية وبطبيعة الحال العسكرية. هذا التوجه دفع إسرائيل إلى إعادة تعريف حدودها، بحيث لم تعد خطوطاً دفاعية ثابتة، بل “مجالات ديناميكية” للعمل العسكري الهجومي داخل أراضي الجوار. وفيما يخص الحالة السورية، يُترجم هذا التوجه برفض إسرائيل لأي قوة عسكرية على حدودها لا تخضع لسيطرتها المباشرة، أو لا ترتبط معها باتفاق سلام شامل.
تتمسك الحكومة السورية بموقف ثابت: العودة الفورية وغير المشروطة إلى اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974.
عملية سهم باشان العسكرية
في الساعات التي تلت إعلان سقوط نظام الأسد، أطلق الاحتلال الإسرائيلي عملية “سهم باشان”، وهي أضخم عملية جوية منذ حرب 1973. في 48 ساعة فقط، نُفِّذت 480 ضربة جوية استهدفت 320 موقعاً استراتيجياً، من مطارات الشعيرات ودير الزور والمزة، إلى قواعد الفرقة الخامسة قرب الجولان، وموانئ طرطوس واللاذقية، وأماكن ومواقع عسكرية أخرى. وتُقدّر المساحة التي احتلّها الجيش الإسرائيلي بأكثر من 600 كيلومتراً مربعاً من الأراضي السورية. وقد أشار الرئيس السوري أحمد الشرع في أثناء حديثه في منتدى الدوحة في ديسمبر 2025 إلى أن إسرائيل نفّذت أكثر من ألف غارة جوية و400 توغل بري. كما تسبّبت بمقتل 76 شخصاً وإصابة 121 آخرين، وإقامة تسع قواعد عسكرية، ثمانٍ منها في محافظة القنيطرة.
وتأتي هذه العملية وما تبعها تطبيقاً لمبدأ “السيطرة المكانية، وتهدف إسرائيل من هذا التوسع إلى:
· السيطرة الطبوغرافية: احتلال قمة جبل الشيخ والمواقع المرتفعة لتعزيز الإنذار المبكر ليس تجاه سوريا فحسب، بل وجنوبي لبنان أيضاً.
· الأمن المائي: ضمان بقاء الموارد المائية في القنيطرة وغربي درعا، التي تغذي حوض نهر الأردن، ضمن نطاق النفوذ الأمني الإسرائيلي.
· إضعاف القدرات العسكرية السورية: تدمير البنية التحتية العسكرية السورية لإبقاء الدولة في حالة ضعف وهشاشة، ومنع تواجد أي قوة عسكرية فعّالة في الجنوب.
اتفاقية 1974: بين الإصرار السوري والرفض الإسرائيلي
في مواجهة التصعيد، تتمسك الحكومة السورية بموقف ثابت: العودة الفورية وغير المشروطة إلى اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. وقد أكّد الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني أن “العلاقة مع إسرائيل تمر عبر الالتزام باتفاق 1974، ولن يتم بحث أي اتفاقية سلام قبل تنفيذ بنود هذا الاتفاق”. وتطالب دمشق بانسحاب إسرائيلي كامل إلى خطوط ما قبل 8 ديسمبر 2024، وإخلاء جميع القواعد والنقاط العسكرية، ووقف التوغلات والضربات الجوية، وإعادة نشر قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك في المنطقة العازلة. كما رفضت المطالب الإسرائيلية بإنشاء منطقة منزوعة السلاح تمتد من دمشق إلى جبل الشيخ.
في المقابل، ترفض قوات الاحتلال العودة إلى اتفاق 1974، معتبرة أنه “انهار” ولم يعد يلبي متطلباتها الأمنية الجديدة. وفي سبتمبر 2025، قدمت إسرائيل مقترحاً بديلاً يقوم على نزع السلاح الكامل من جنوبي سوريا، وتوسيع المنطقة العازلة، والاحتفاظ بقمة جبل الشيخ، وفرض منطقة حظر جوي، مع الحصول على حرية الحركة الجوية عبر الأجواء السورية.
يُقلّص التحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر بشكل كبير من فرص التوصل إلى اتفاق مع سوريا.
تعريف الأمن: خلاف الطرفين
المشكلة الرئيسية ليست في تفاصيل المنطقة العازلة أو عدد النقاط العسكرية، بل في اختلاف جوهري حول مفهوم الأمن نفسه. تنظر إسرائيل إلى الجنوب السوري بوصفه مساحة ينبغي تحييدها بالكامل، ومنع تشكّل أي قوة عسكرية فيها، حتى لو كانت تابعة للجيش السوري. أما سوريا، فترى أن أمنها يتحقق باستعادة السيادة الكاملة على أراضيها، وأن حماية أي منطقة عازلة لا يمكن أن تتم إلا عبر الجيش السوري.
وقد صرّح وزير خارجية الاحتلال مؤخراً بأن “الفجوات اتسعت” وأن الطرفين أصبحا “أبعد عن الاتفاق”. ويُعزى الفشل في الوصول لصيغة توافقية إلى غياب الثقة بين الطرفين، وضعف الضغط الأميركي والدولي على إسرائيل، إضافة إلى تنامي المقاومة الشعبية في أرياف درعا والقنيطرة ودمشق، حيث تصدى السكان المحليون للتوغلات الإسرائيلية في مناسبات عدة، مما أسفر عن ردود عنيفة من الجيش الإسرائيلي.
ثلاثة سيناريوهات للمستقبل
أمام هذا الواقع المعقد، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة للعلاقة بين الطرفين:
الأول والأكثر احتمالاً هو التوصل إلى اتفاق أمني محدود برعاية أميركية، يقوم على انسحاب جزئي من بعض المواقع الإسرائيلية مقابل احتفاظها ببعض النقاط العسكرية، مع إعادة رسم حدود المنطقة العازلة بشكل أوسع من اتفاق 1974، وتعزيز المراقبة الدولية. وقد يحدث ذلك خلال زيارة نتنياهو المرتقبة للبيت الأبيض في أواخر ديسمبر 2025.
السيناريو الثاني يقوم على استمرار الوضع الراهن، مع مفاوضات متقطعة من دون الوصول لاتفاق نهائي. في هذه الحالة، ستبقى إسرائيل في المواقع التي احتلتها، وقد تتوغل أكثر، مع استمرار الضربات الجوية. ويُرجّح هذا السيناريو في حال غياب الضغط الدولي، خاصة أن الحكومة السورية قد تفضله على الدخول في اتفاق سلام شامل مع إسرائيل.
أما السيناريو الثالث فهو التصعيد الميداني، وهو الأقل احتمالاً نظراً لعدم رغبة الحكومة السورية في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، وحرص واشنطن على استقرار المنطقة. لكن حالات المقاومة الشعبية المتكررة في الجنوب السوري قد تزيد من احتمالية حدوث اشتباكات محدودة أو مواجهات غير مخطط لها.
ختاماً، يُقلّص التحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر بشكل كبير من فرص التوصل إلى اتفاق مع سوريا. فإسرائيل لا تقبل بوجود أي قوة عسكرية على حدودها لا تخضع لسيطرتها المباشرة، وتصر على فرض واقع أمني جديد في الجنوب السوري يمنحها السيطرة الكاملة على مقدرات المنطقة..
المصدر: تلفزيون سوريا


