هل هناك حلف أقليات في سورية؟

حسام جزماتي

عاماً بعد عام يرتكس السوريون إلى جماعات أهلية كبرى وصغرى، بدءاً من الطائفة والعشيرة وانتهاء بالعائلة. ويتأكد لديهم أن ما كان ينظمهم في دولة واحدة هو زمن السلم المحروس بالمخابرات والمترافق مع إنكار ظاهري للتمايزات العميقة وحصرها في المطابخ والرقص الفولكلوري وبعض أنماط اللباس المحفوظ في متحف التقاليد الشعبية الذي كنّاه.

ومن الملاحظ أن الثورة، التي بدأت في بيئات عديدة متباينة، تطابقت تقريباً، ومنذ مدة ليست قصيرة، مع المكوّن العربي السنّي، لأسباب معقدة يصعب الوقوف عليها هنا. أما نظام الأسد فحافظ على خطاب وطني جامع وكاذب يظهر في تصريحاته الرسمية ووسائل إعلامه، وعلى سلوك طائفي شبكي مضمر اعتاد على شيفراته وزاد تفعيله بعد الثورة. وبين هذين الوجهين تحدث بعضهم عن حلف أقليات تشكل من المذاهب الإسلامية غير السنّية في البلاد؛ العلويين والإسماعيليين والدروز والشيعة، ومن الطوائف المسيحية المتعددة، وربما اعتُبر الأنصار الكرد لحزب «الاتحاد الديمقراطي» (pyd) جزءاً من هذا الحلف، ولا سيما في المراحل الأولى لنهوض هذا الحزب وتمدده وتشكيله «وحدات حماية الشعب».

بعد هذه السنوات يجدر بنا تفحص فرضية «حلف الأقليات»، أي بعدما تبلور سلوك هذه الجماعات في مساراتها الخاصة شبه المستقلة. ومن البديهي أننا حين نستخدم صيغة الجمع لا نعني أن السلوك العام لجماعة ما يشمل جميع أفرادها حصراً، وإنما نعبّر به عن الطابع الأوضح والأبرز، وبناء على الملاحظة.

وإذا كانت «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، ذات النفوذ الكردي، قد أعلنت عن خيارها الفيدرالي الذي لا تنوي التراجع عنه رغم مصاعبها الكثيرة وتعثر مفاوضاتها مع دمشق؛ فإن دروز السويداء قد ساروا في طريق مقارب عندما مالوا إلى النأي بالنفس بامتناع قطاع واسع من شبانهم عن أداء الخدمة العسكرية، بالتوازي مع المحافظة على «مؤسسات الدولة» ورموزها وشعاراتها وعلى طلب الحل من العاصمة. وبهذا لم تكن المحافظة جزءاً من أي حلف سوى نفسها؛ أي مخاوفها الذاتية وموقعها وتوجسها بشأن المستقبل، ولو وجد فيها من هو محسوب على النظام أو من ينحاز إلى الثورة.

أما الإسماعيليون، الذين يتركزون أساساً في سلَمية ومصياف ونهر الخوابي، فليسوا متروكين من دون سهم يشير إلى الطريق الأسلم. ونعني منهم أكثريتهم المرتبطة دينياً أو رمزياً بالآغا خان الرابع كريم الحسيني. ومن المعتاد أن هذا النمط من الزعامات الكلية للطوائف يميل إلى نصح أتباعه في كل بلد إلى تجنب الانحياز السافر إلى أحد «أطراف النزاع» والالتزام بالصوت الأخفت والسبيل الأكثر أمناً. وإن حافظت القيادة الدينية/ الدنيوية العالمية للطائفة، أو ممثلوها المحليون، على علاقات طيبة مع السلطة التي ما تزال تمثل «الشرعية».

تاريخياً كانت سلَمية إحدى بؤر الاعتراض اليساري على نظام حافظ الأسد، ومن أبرز نقاط الاحتجاج في 2011. ولم يمر قمع حراكها من دون أن يعمّق الفجوة المدماة بينها وبين ريفها الذي أسهم مساهمة كبرى في ذلك. وهو ريف مغاير طائفياً وموالٍ سياسياً. وإذا كان معظم الشبان في السويداء يستنكفون عن التجنيد الإلزامي فإن مجايليهم في سلَمية يتحايلون عليه بوسائل شتى، من التخفي إلى الخروج من البلاد عبر التهريب.

وفي حين يبدو أن الطائفة الشيعية الاثني عشرية حليف صميم للنظام، وهي كذلك، فإن التعمق أكثر في حال هذه الأقلية الصغرى جدير بتقديم صورة أفضل. فمنذ أن انخرط الشبان الشيعة في قمع الانتفاضة تراجعت وشائج مناطقهم المتناثرة ببنية النظام لصالح إيران، التي تحول الولاء الديني والرمزي لها إلى ارتباطات عسكرية وإدارية وتنظيمية ومالية. ولولا اللباقة التي يحرص عليها بعض حلفاء النظام من الشيعة غير السوريين، ونعني هنا «حزب الله» اللبناني والإيرانيين، لأبرز الشيعة السوريون استقلاليتهم بشكل أكبر، ولأوضحوا أنهم يقاتلون للدفاع عن أنفسهم بالدرجة الأولى، وسط محيط صاروا يعدّونه غير آمن، ولتعزيز مخطط الولي الفقيه الذي ينجدل فيه وجهان سياسي وديني. وما سوريا الأسد إلا إحدى ركائز هذا المشروع وممره الجغرافي الإجباري.

وخلافاً لما يقال عن تقارب مذهبي أصلي بين العلويين والشيعة يُظهر الواقع معطيات أخرى. فعادات الحياة اليومية للطرفين متباينة بشدة ولا يمكن رتقها إلا بعملية تشييع تواجه نفوراً محلياً. ومن المعروف في الساحل أن السكان الموالين يفضّلون «الأصدقاء» الروس على «الإخوة» الجعفريين المتزمتين. كما أن الضباط الإيرانيين والحجّاج اللبنانيين دائمو الشكوى من فوضى القوات السورية التي يحرّكونها أو تشاركهم المعارك ومن ضعف كفاءتها وفسادها، وكثيراً ما يعاملونها باستعلاء ونزق ونفاد صبر لا يخفى على قادتها من ضباط جيش النظام.

وإذا كان وصف المسيحيين السوريين، بطوائفهم وأعراقهم المتقاطعة، يبدو أصعب من ناحية نظرية؛ فإن الموقف المتناغم الذي أبدته هذه البيئات جعلها تبدو بيئة واحدة خلا بعض الاستثناءات الفردية المعارضة أو مجموعات أرثوذكسية ريفية مدعومة من روسيا. والعنوان الأشيع هو الخوف التقليدي لمسيحيي المشرق على وجودهم وحرية ممارسة شعائرهم، والمحافظة على أعمالهم التي يغلب عليها القطاع الخاص وتتطلب الأمن والاستقرار. ومع تنامي التوجه الإسلامي في أجواء الثورة، والسلوك الوحشي للنظام، تزايدت القناعة بين المسيحيين بأن السلام لن يحل قريباً وبطريقة هادئة. فأخذوا يقارنون بين ميزات دول اللجوء، ويبيعون بيوتهم ليشتروا الجنسيات.

يرتكز النظام، العسكري بطبعه يوم ولد ويوم يموت، على الطائفة العلوية، من دون أن يشمل هذا كل العلويين أو يقتصر عليهم. ورغم مخاوف الأقليات من علوّ الصوت العربي السنّي في الشمال، وظهور داعش في مرحلة سابقة؛ لم يستطع بشار الأسد بناء أحلاف مكينة بسبب سياسة السير بعناد ومباشرة نحو الهاوية التي لا تغري أقليات ولا أكثريات. وما زالت قوته العددية تعتمد على ما يتيسر لشرطته العسكرية من سَوق المجندين. وفي هذا تختلط الأنساب كيفما اتفق، وتتحدّر البيادق من خلفيات شتى ربما تغلب عليها العربية السنّية بما أنها الجماعة الأكبر، وبسبب استسلام جزء موالٍ منها، أو رمادي، لأن الخدمة العسكرية قدَرٌ يتحتم على الشاب تسديده. يدخله من باب، وبعد سنوات من الضياع يخرج من الآخر. وهو ما لم يعد مضموناً على كل حال!!

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى