من “الأرض مقابل السلام” إلى “التطبيع مقابل الإذعان”

خالد الحروب

التقديرات والتسريبات المزعجة المتواترة عن احتمالات توقيع سورية على اتفاق تطبيع مع إسرائيل تسكب مرارة حارقة في قلوب كثيرين ممّن فرحوا للتغيير في سورية، وسقوط بشّار الأسد ونظامه الذي بطش بالسوريين، وأنهك بلدهم عقوداً طويلة. تشي تفاصيل التسريبات التي ترد، وكلّها من مصادر إسرائيلية أو أميركية، لا يجري نفيها أو حتى توضيحها من النظام الجديد في دمشق، بصفقة تطبيع مخزية نتمنّى أن لا تتمّ، إذ تهبط بسقف صفقات التطبيع العربية مع إسرائيل إلى قاعٍ جديد. كأنّ ثمة تسابقاً بين الأنظمة العربية في المزايدة على من يقدّم خضوعاً أكثر في اتفاق التطبيع الذي يوقّع عليه. ما إن استفاق المشهد العربي من تفاصيل التطبيع الإسرائيلي- الإماراتي المُفزع في “دفئه”، وتفاخر مهندسوه باختلافه عن تطبيع مصر والأردن البارد، حتى صفعتنا تفاصيل التطبيع الإسرائيلي – المغربي، الذي استباح أرض المغرب وسماءها وبحرها لكلّ حقراء المؤسّسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وحقاراتها، ليس على شكل زيارات فحسب، بل ومشروعات تصنيع وتوطين وتوسيع نفوذ لإسرائيل في المغرب وكل المحيط المغاربي. اليوم، تقول الأنباء إنّ سورية أحمد الشرع سوف توقع على اتفاقية، أمنية الطابع أو غيره، أقلّ ما يقال عنها إنها إذعان كامل وإخضاع لسورية ومستقبلها تحت “البسطار” الإسرائيلي. يتنازل نظام الشرع الإسلامي عن الجولان المحتل وسيادة سورية عليه، وهي الجريمة التي لم يكن للنظام الأسدي السابق أن يجرؤ على التفكير فيها، فضلاً عن تنفيذها. قد يُقال، وعلى وجه حقّ، أن هذا الكلام مُتسرّع في توقيته ومضمونه، وأن ما يُقال ويجري ترديده ليس صحيحاً أو دقيقاً. وهذا ما أتمناه شخصياً ويتمناه ملايين العرب، وسوف أعتذر عمّا يرد في هذه المقالة في حال لم تنزلق سورية الجديدة إلى مستنقع تطبيع الإذعان. بيد أنّ المؤشّرات العديدة أكثف من أن يجري التقليل منها، وفي مقدّمتها التأهيل السريع جداً للشرع نفسه، وإزالة هئية تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) عن قائمة الإرهاب. وللمقارنة، ما تزال منظمّة التحرير الفلسطينية على القائمة الأميركية للمنظمات الإرهابية، برغم توقيع اتفاق أوسلو والاعتراف بإسرائيل. يُضاف إلى تلك المؤشّرات العديدة الصمت المريب الذي يلفّ دائرة الرئيس الشرع والمسؤولين السوريين عموماً إزاء موضوع التطبيع، وهو صمت أصبح مدوّياً إلى درجة تصمّ الآذان. وبالمناسبة، كيف يمكن لرئيس انتقالي وحكومة انتقالية التوقيع على اتفاق دائم يتنازل عن جزء من السيادة السورية على أي شبرٍ مهما كان؟ يحتاج هذا إلى مؤسّسة تشريعية ممُثلة للإرادة الشعبية وآليات شفافة في العهد الجديد، وإلّا يستنسخ ما كان يقوم به العهد البائد من سياسة اتّخاذ قرار قائمة على الفرد الواحد والدائرة الضيقة.

كأنّ ثمة تسابقاً بين الأنظمة العربية في المزايدة على من يقدّم خضوعاً أكثر في اتفاق التطبيع الذي يوقّع عليه

في عقود سابقة كانت إسرائيل والولايات المتحدة وراءها، تدفعان العرب والفلسطينيين إلى إبرام اتفاقيات تطبيع تقوم على أساس مفهوم “الأرض مقابل السّلام”، أي أن “تتنازل” إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها من مصر أو سورية أو لبنان، أو أجزاء من الأرض الفلسطينية في حالة السّلام مع الفلسطينيين، مقابل أن يوقع العرب اتفاقيات سلام معها. بحسب تلك المعادلة “السّلام” يمنحه العرب لإسرائيل مقابل أن “تمنحهم” أرضهم التي احتلتها. في تلك الأيام، التي أصبحت أيام “صمود تطبيعي” مقارنة بما يحدُث اليوم، كان المطبّعون يشعرون بالعار وفي موقع الدفاع. كيف يمكن قبول معادلة “سلام” تقوم على “منح” الدول العربية أراضيها التي احتلتها إسرائيل؟ وقد كُتب آنذاك وبعده نقد كثير حول ذلك التطبيع المهين. لم يخطُر ببال أحد يومها أن تلك المعادلة، ومع استمرار أنظمة التخاذل والخضوع، سوف تتحوّل إلى سقف عالٍ صار محطّ أمنيات في هذه الأيام التي انحدرت فيها الأمور إلى وضعٍ مُذهلٍ من الإذلال.

“سلام” اليوم الذي تطرحه إسرائيل وأميركا على سورية ولبنان والعراق وإيران ودول الخليج، بل وكل دول المنطقة، يقوم على مفهوم جديد، “التطبيع مقابل الإذعان”، وفي جوهره انقلبت مسألة مَن يَمنَحُ ماذا؛ ففي المعادلة الجديدة إسرائيل هي التي تمنح “السّلام”، أو الاستسلام على نحوٍ أدقّ، وتفرض شكله وشروطه وطبيعته. وهي تتدلّل في “منحها” هذا السّلام لهذا الطرف العربي أو ذاك، وما تطلبه مقابل أن تُغدق على العرب “سلامها” هو الإذعان الكامل منهم. الإذعان يعني، عملياً، وبلغة الناس في المقاهي والشوارع، التوسّل لإسرائيل أن تكفّ شرّها عن البلد مقابل التوقيع على أيّ اتفاق تطبيع تريده. إسرائيل، في الحالة السورية، تصول وتجول عسكرياً ومخابراتياً وأمنياً، تقصف الجيش السوري وتقضي على أكثر من 80% من مقدّراته، تداهم مخابئ وأرشيفات سرّية وتسرقها، تعتقل وتعذب وتحقق مع مَن تشاء فوق الأراضي السورية، تتحالف مع هذه الطائفة أو تلك. ويقول قادتها بالفم الملآن إنّ هدفهم هو تقطيع سورية وتقسيمها إلى دويلات. ما “تمنحه” إسرائيل للنظام الجديد في سورية مقابل الإذعان هو أن تقدم “وعداً” لفظياً بأن تكفّ عن اعتداءاتها تلك. إسرائيل طبعاً هي التي تقرّر إن كان ثمة طارئ جديد في سورية لا يتماشى مع اتفاقية الإذعان، وبالتالي يسوّغ لها التحلّل من أيّ وعد، وتواصل بناء عليه اعتداءاتها ومخطّطاتها لتقسيم سورية. لذلك؛ يغرق في الوهم إلى القاع من يظنّ أن الإذعان لإسرائيل يحميه من غدرها واستهدافها له بالإضعاف والتفتيت.

ما “تمنحه” إسرائيل للنظام الجديد في سورية مقابل الإذعان هو أن تقدم “وعداً” لفظياً بأن تكفّ عن اعتداءاتها

الإخضاع والخضوع وفق معادلة “التطبيع مقابل الإذعان”، سواءً في الحالة السورية أو غيرها من الحالات المرشّحة يعني أموراً عدّة؛ أولاً أن تكون إسرائيل صاحبة اليد الطولى والوحيدة عسكرياً في أرض البلد المُطبّع وسمائه وبحره، وأن تفكّك البنية العسكرية والجيش وأي “تهديد” حالي أو مستقبلي لإسرائيل، حتى لو في أدنى حد متخيّل، وثانياً أن تتوفر لإسرائيل الحرية والإمكانية للوصول إلى مقدرات البلد المعني وثرواته على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، اقتصادياً، واستثمارياً، واستكشافياً، تحت مسمّيات التعاون الاقتصادي الإقليمي وغيره من التوصيفات الناعمة، وثالثاً أن تفرض إسرائيل شكل التعليم والثقافة الوطنية والدينية في البلد المُطبّع لغسل أدمغة الأجيال القادمة، وهندستها تطبيعياً، لضمان ديمومة عصر الاستباحة وعدم الممانعة، أمّا رابعاً فهو تحصيل حاصل لما نراه اليوم؛ يُسلّم الجميع لإسرائيل بالقيادة الإقليمية وبأنها صاحبة القول الفصل في أي قضية إقليمية.

تنطبق معادلة “التطبيع مقابل الإذعان” على ما يريده نتنياهو وترامب من إيران. إذ من الواضح أن الاثنين يخطّطان لضربة ثانية لإيران ومقدّراتها النووية وقدرتها الصاروخية، أو ما سلم منها بعد الجولة الأولى في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران). إيران المقبولة إسرائيلياً وأميركياً، وفي الشرق الأوسط ذي الوجه الجديد كما يتبجّح نتنياهو، هي إيران مقلّمة المخالب والمُستباحة تماماً. ولا يتوقف الأمر، ولن يتوقف عند إيران، بحسب التصريحات الإسرائيلية نفسها من مسؤولين سياسيين، وقادة عسكريين، ومفكّرين استراتيجيين، بل يمتد مفهوم الإخضاع من فوق والقبول بالإذعان من تحت ليطاول تركيا وباكستان. وقد سمعنا أخيراً تهديدات إسرائيلية كثيرة تقول: تركيا هي التالية، وباكستان ليست مُستثناة من المخطّطات المُعلنة. الشرق الأوسط الذي تريده إسرائيل يجب أن يكون مُستباحاً لها من المحيط إلى الخليج، عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وثقافياً، ويخلو من أيٍّ من أشكال الممانعة أو المقاومة حتّى السلمية. لذلك سوف نشهد ظواهر عديدة من التصهين العربي والتصهين غير العربي في المنطقة، والتصهين الديني والتصهين غير الديني الذي يريد إعادة تفسير الإسلام من منظور صهيوني تبعاً للديانة الإبراهيمية. نجاح ذلك كلّه أو فشله مربوط بنا جميعاً، وبمدى سماحنا لمثل هذه الاستباحة أن تأخذ أمديّتها القصوى ونحن نتفرّج.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى