
أثارت تسريباتٌ حديثةٌ الجدل في المغرب من جديد حول حجم الفساد الذي ينخر بنية الدولة المغربية من أعلى مستويات داخلها، فقد أظهرت أحدث التسريبات وثائق تبيّن ما راكمته وزيرة مغربية، توجد على رأس حزبٍ مقرّبٍ من القصر، من ثروة كبيرة ناهزت 400 مليون درهم، أي نحو 40 مليون يورو، بين 2023 و2024، عبر الاستيلاء بطرق غير قانونية على عقارات شاسعة في مدينة مراكش وبيعها، ما مكّنها من جني ثروة خيالية في ظرف سنة. لم تنف الوزيرة وجود العقار ولا وجود الصفقة، وإنما هاجمت من يسعون إلى تشويه سمعتها، ومثل أي مسؤول في المنطقة العربية ادّعت أن ثروتها “عرفت تراجعاً ملحوظاً وليس زيادة” منذ توليها مسؤوليتها الحكومية، وهي بذلك تمنٌّ على المواطن بتحمّلها مسؤولية الوزارة التي تديرها!
وقبل هذه التسريبات، هزّت الرأي العام المغربي بيانات رسمية مسرّبة عما يمكن أن يرقى إلى عمليات فساد واستيلاء على أملاك عقارية من مسؤولين رفيعي المستوى داخل هيكل الدولة المغربية، منهم وزير على وزارة سيادية ورئيس واحد من أقوى أجهزة المخابرات المغربية. وكشفت تلك البيانات عن صفقات “مشبوهة” لشركات مملوكة لأبناء المسؤولين أنفسهم، مكّنتهم من الحصول على ثروات تقدّر بالملايين في ظرف وجيز، ومع ذلك لم يصدُر أي تكذيب أو بيان توضيح من هؤلاء المسؤولين، أو من أي جهة رسمية مغربية، للرد على تلك الاتهامات بالإثراء غير المشروع لمسؤولين كبار داخل جهاز الدولة المغربية.
والأمثلة عن قصص الفساد في المغرب كثيرة، وليست كلها ادّعاءات أو مجرّد حملات لتشويه السمعة وتصفية الحسابات، والدليل عدد الملفات الكثيرة المعروضة أمام المحاكم المغربية والمتورّط فيها مسؤولون مغاربة بتهم الفساد، واستغلال مواقع مسؤوليتهم لمضاعفة ثرواتهم، ومن بينهم من صدرت في حقهم أحكام نهائية تدينهم، بينهم وزراء، وبرلمانيون، ورؤساء مجالس منتخبة، وموظفون كبار، بل ومنتسبون لجهازي الأمن والقضاء، وطاولت المتابعات أساتذة جامعيين يتاجرون في بيع الشهادات الأكاديمية!
تحوّل الفساد إلى ظاهرة تخترق جميع شرائح المجتمع
في أحدث تقرير صادر عن منظمة الشفافية العالمية، جاء وضع المغرب في المرتبة الـ99 عالميّاً، فالفساد ليس طارئاً جديداً على المجتمع المغربي، وقد تغلغل في جميع مسامّه حتى أصبحت التقارير الرسمية تصفه بـ”الفساد المتعدّد الأبعاد”، بما أنه تحوّل إلى ظاهرة تخترق جميع شرائح المجتمع، انطلاقاً مما يصفه الخبراء بـ”الفساد الصغير”، المتمثل في الرشوة والمحسوبية، إلى أخطر وجوهه، وهو ما يوصف بـ”الفساد الكبير” الذي يسعى إلى تحقيق ربح شخصي، من خلال إساءة استخدام السلطة العامة والمال العام والموقع الرسمي، ويتجلى في الصفقات الكبيرة والامتيازات التي يخوّلها الموقع في السلطة. وثمة نوع ثالث من أنواع الفساد يوصف بـ “الفساد المقدّس”، وهذا الأخير لا أحد يجرؤ على الحديث عنه، لأنه يتعلق بمسؤولين كبار خارج إطار كل محاسبة أو مراقبة، ومن شأن الحديث عنه أن يزجّ صاحبه في غياهب السجون.
وما بين أنواع الفساد الصغير والفساد الكبير والفساد المقدس، الضحية هو المجتمع والمواطنة والمواطن المغربي المغلوب على أمره، ففي آخر تقرير صدر عام 2024 عن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وهي مؤسّسة رسمية، كشف أن الفساد يكلف المغرب سنوياً 50 مليار درهم، أي ما يعادل خمسة مليارات يورو، وكان ردّ الحكومة على التقرير إقالة رئيس الهيئة التي أنجزته، وتخفيض ميزانيتها إلى النصف، لتلتزم “حدودها” هيئة شكلية، دورها تزيين الواجهة الخارجية للبلاد. وقبل هذه الواقعة، جرت في عام 2021 إقالة رئيس مؤسسة رسمية أخرى، “مجلس المنافسة”، لأنه تجرّأ على مواجهة لوبي الفساد داخل قطاع توزيع وبيع المحروقات في المغرب الذي تهيمن عليه شركات كبرى مملوكة لمسؤولين كبار في الدولة.
لم تقتصر محاربة فاضحي الفساد فقط على رؤساء أو منتسبين إلى مؤسسات رسمية دستورية، وإنما تعدّى ذلك الأمر إلى المجتمع المدني، حيث أصبحت جمعيات صغيرة، لا يتعدّى عددها أصابع اليد الواحدة، متهمة بـ”التهويل والتشويه والابتزاز”، ورؤساؤها والمنتمون إليها معرّضون للمتابعات القضائية والمحاكمات، وقد ينتهون غداً وراء القضبان، خصوصاً بعد المصادقة على قانون يضيّق حق المجتمع المدني في فضح الفساد ومحاربته. وداخل البرلمان، سحبت الحكومة الحالية، أول ما جرى تنصيبها عام 2021، مشاريع قوانين لمكافحة الفساد كانت معروضة على البرلمان للمصادقة عليها، مثل مشروع قانون الإثراء غير المشروع، فعلت ذلك بدعوى “تحسين” تلك المشاريع “وتجويدها”، لكنها لم تعد طرحها على البرلمان الذي يوجد اليوم أكثر من 40 من أعضائه في وضعية متابعة قضائية في جرائم فساد، ومنهم من يقبعون داخل السجون!
جرى التطبيع مع الفساد على جميع المستويات في المغرب، حتى تحوّل إلى أخطر تهديد لاستقراره وتماسك مجتمعه
ولا داعي للحديث عن أنواع أخرى من الفساد الاجتماعي والإداري والقضائي والسياسي، المتمثل في تزوير إرادة الناخبين، فالفساد في المغرب تحول إلى بنية اجتماعية، وسياسية، وثقافية قائمة بذاتها، تخترق المجتمع والدولة بكل مؤسّساتها، وتشكل عائقاً حقيقياً أمام أي محاولة للانطلاق الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وهو ما يفسّر، من بين عوامل أخرى، تنامي مستوى الفقر المتعدّد الأبعاد في المغرب الذي يعاني منه 2.5 مليون مغربي، حسب آخر إحصاء رسمي نشر نهاية العام الماضي (2024)، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، حيث شهدت السنوات العشر الأخيرة تفاقم الفوارق الاجتماعية، بحيث أصبح أكثر من 4.7 ملايين مغربي مهدّدين بالسقوط تحت خط الفقر. والأخطر من ذلك اتساع الفوارق المجالية بين “مغرب المظاهر” في المدن والحواضر الكبرى، و”مغرب الفقراء” في الجزء المنسي والمهمّش من البلاد الذي كان يسمّيه الاستعمار الفرنسي بـ”المغرب غير النافع”، حيث ما زال الناس يخرجون في تظاهرات للمطالبة بأبسط متطلبات الحياة: الطريق والمدرسة وسيارة الإسعاف والماء لسد العطش!
طوال ربع القرن الماضي، جرى التطبيع مع الفساد على جميع المستويات في المغرب، حتى تحوّل إلى أخطر تهديد لاستقراره وتماسك مجتمعه، وأدّت سياسة الإفلات من العقاب، ومحاربة فاضحي الفساد، والتضييق على هامش حركة المجتمع المدني، وتدجين الأحزاب والنقابات المعارضة، والقضاء على الصحافة الاستقصائية، من خلال التضييق على حرية الصحافة ومحاكمة الصحافيين، إلى تغلغل الفساد في جميع منافذ الدولة والمجتمع، بما فيها تلك المفروض عليها محاربته ومراقبته والتحذير من تفشّيه. محاربة الفساد تقوم على وجود إرادة سياسية حقيقية عند الدولة، وهذه غير موجودة، كما تقوم على ثقافة رفض الفساد ومقته التي تنمو داخل المجتمع، من خلال مناهج التعليم، وهذه جرى تخريبها على مرّ العقود السابقة، وما بقي هو انتظار وقوع الكارثة.. والتسريبات أخيراً ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج.
المصدر: العربي الجديد